قال القاضي عبد الجبار : « إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ممن يخالف فعله قوله ، سكونَها إلى من كان منزهاً عن ذلك . فيجب أن لا يجوز في الأنبياء عليهم السلام ، إلّا ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب والإستخفاف والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته .
يبيّن ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي ، بالمنع والردع والتخويف ، فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك ، لأنّ المعلوم أنّ المُقْدِمَ على شيء ، لا يقبل منه منع الغير منه بالنهي والزجر والنكير ، وأنّ هذه الأحوال منه لا تؤثّر . . . ولو أنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي مَنْ يشاهده مقدماً على مثلها ، لاستخفّ به وبوعظه » (١) .
وقال في موضع آخر : « إنّ الواعظ والمُذَكّر ، وإنّ غلب على ظننا من حاله أنّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة ، حتى عرفنا من حاله الإنهماك في الشرب والفجور من قبل ، لم يؤثّر وعظه عندنا ، كتأثير المستمر على النظافة والنزاهة في سائر أحواله » (٢) .
وهذا كما يوجب العصمة بعد البعثة ، يقتضيها قبلها أيضاً ، لأنّ لسوابق الأشخاص ، وصحائف أعمالهم الماضية تأثيراً في قبول الناس كلامهم وإرشاداتهم وهداياتهم (٣) .
ثم إنّ هنا سؤالان مهمّان يطرحان حول العصمة ، نفردهما بالذكر ، ونجيب عليهما قبل أن ننتقل إلى بيان العصمة عن المعصية والمخالفة المولوية ، في الذكر الحكيم .
* * *
__________________
(١) المغنى ، ج ١٥ ، ص ٣٠٣ .
(٢) المصدر نفسه ، ص ٣٠٥ .
(٣) وقد أقام المتكلمون ، على عصمة الأنبياء ، دلائل كثيرة ، فذكر المحقق الطوسي ثلاثة ، وأضاف إليها القوشجي دليلين آخرين ، وذكر الإيجي تسعة أدلّة . غير أنّ بعض ما ذكروه ليس دليلاً عامّاً لجميع الأحوال والفترات ، بل يختص بعصر النبوة . ومن أرادها فليلاحظ المواضع التالية : كشف المراد ، ص ٢١٧ . شرح التجريد للقوشجي ، ص ٤٦٤ . المواقف ، ص ٣٥٩ ـ ٣٦٠ .