استدلّت المخطئة بالإستثناء الوارد بعدها على إمكان النسيان ، غير أنّهم غفلوا عن نكتة الإستثناء ، وهي عين النكتة في الإستثناء الوارد في قوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (١) .
إنّ قوله سبحانه : ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ، يَدُلُّ على أنّ الخلود في الجنة لا يقطع ولا يُجَزّ ، بل هو عطاءٌ موصول من الربّ ، ما دامت الجنة باقية ، ومع ذلك استثنى سبحانه الخلود بقوله : ( إِلَّا مَا شَاءَ ) . وليس ذلك لأنّ الخلود يُقطع ، بل للإشارة إلى أنّ قدرة الله سبحانه بعد إدخالهم الجنة باقية بعدُ ، فالله سبحانه ـ مع كونهم مخلَّدين في الجنة ـ قادر على إخراجهم منها .
وعلى ما ذكرنا يعلم وجه الإستثناء في الآية التي وقعت مورد الإستدلال ، فإنّه يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها ، وأنّ عطية الله ( جَعْل النبي قارئاً لا ينسى ) لا تسلب القدرة عن الله سبحانه على إنسائه ، بل هو عليه قادر متى شاء ، وإن كان لا يشاء ذلك .
وبدراسة هذه الآيات التي قدمناها ، تقف على تحليل كثير من الآيات التي نُسب فيها النسيان إلى غير النبي الأعظم من الأنبياء ، مثل قوله سبحانه :
أ ـ ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (٢) .
ب ـ ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا . . ) (٣) الوارد في موسى وفتاه .
ج ـ ( . . . لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ . . . ) (٤) وهو قول موسى للخضر .
وغير ذلك من الآيات (٥) .
__________________
(١) سورة هود : الآية ١٠٨ .
(٢) سورة طه : الآية ١١٥ .
(٣) سورة الكهف : الآية ٦١ .
(٤) سورة الكهف : الآية ٧٣ .
(٥) قد أجمل الأستاذ ـ دام ظلّه ـ الكلام هنا في هذه الآيات ، فنحن نستدرك البحث فيها بما يرفع الستار عن وجهها ، ونجعله في ملحق خاص آخر الكتاب .