فلأجل ذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الدين الخالد مقروناً بالمعجزة الخالدة ، حتى تتم الحجة على جميع الأجيال والقرون إلى أن تقوم الساعة ، وهذا لا يمكن إلّا بأن يكون للإعجاز وجودٌ خالدٌ وثابتٌ عبر القرون ، وليس ذلك إلّا أن يكون مثل القرآن .
وهذا لا يعني أنّه لم يكن للنبي الأكرم معجزة سوى القرآن ، فإنّ ذلك باطل كما سنفصل البحث عنه في المقام الثاني ، بل يعني أنّه صلى الله عليه وآله اختُص بهذه المعجزة دون غيره ، وأنّه كان يركز عليها دون غيرها من سائر معاجزه .
وبعبارة أخرى : إنّ لدعوته سمة الشمول وسمة الخاتمية ، أمّا الشمول ، فَبَعْثُه إلى البشر كلِّهم ، وأمّا الخاتمية فادعاؤه بأنّه خاتم النبيين وأنّ كتابه خاتم الكتب وشريعته خاتمة الشرائع ، فمثل هذه الدعوة التي تَعُمُّ جميع الأجيال والأمكنة ، لا تتم إلّا باقترانها بمعجزة ساطعة على مرّ الدهور وتعاقب الأجيال أوّلاً ، وفي جميع الأمكنة ثانياً ، حتى يتمّ الإحتجاج على المتحرّي ، في جميع الأمكنة والأزمنة . وقد عرفت أنّ مرور الزمان يضفي على سائر المعاجز ، ثوب الظنّ والشك ، إلى أن تصبح في أعين الناس ، خصوصاً الذين هم في منأى عن الأجواء الدينية ، كالأساطير التي تقرء في الكتب . فعند ذلك لا يتمكن المسلم المحتج من إقامة الحجة على مخالفه ومعانده ، بل لا تتم الحجة في حدّ نفسها على المخالف . فاقتضت مشيئته سبحانه أن يبرهن دعوة نبيّه الخاتم بمعجزة ناطقة بالحق ، في جميع الأمكنة والأزمنة تكون كفيلة بإتمام الحجة على البشر إلى قيام الساعة : ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ (١) ، بل تكون ( فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ﴾ (٢) على الناس في كل مكان وزمان .
* * *
__________________
(١ و ٢) اقتباس من آيتين إحداهما في سورة النساء : الآية ١٦٥ والثانية في سورة الأنعام : الآية ١٤٩ .