صنعها مجموعة هائلة من الصناعيين وخبراء العلوم الطبيعية من علماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والطب ، حتى علماء النفس وغيرهم ممن خدموا هذه السفينة والصواريخ الحاملة لها . فلأجل ذلك كلما ازدادت الصناعة عمقاً وتعقيداً ، اتّضح كونها نتيجة حضارة بشرية بحتة ، لا صلة لها بأمر سماوي .
ونفس هذه القاعدة تنطبق على معجزة النبي الأكرم بوضوح ، فإنّه تحدّى بشيء مؤلف من مواد يعرفها كل الناس وفي متناولهم ، حيث إنّه لا يتجاوز عن كونه حروفاً وألفاظاً تشكل لغة العرب ومفردات كلامهم وجملهم . فلو كان هذا القرآن مصنوعَ نفسِ مَنْ جاء به ، فهو وسائر الناس في هذه الحلبة سواء ، لأنّ موادّه في متناول الناس واختيارهم ، فليقم خُبَراؤُهم وعلماؤهم وبُلَغاؤهم وفصحاؤهم بصنع كتاب ، أو عشر سُوَر ، أو سورة واحدة مثله . .
ومع أنّ كل المعاجز تشترك في هذا المضمار ، غير أنّ القرآن يمتاز عنها بمزية ثالثة وهي أنّ الإذعان بكون ما جاء به الكليم والمسيح من المعاجز ، يحتاج إلى معلومات خاصة حتى يتميز في ظلّها السّحر والطب من الإعجاز ، ولكن الإذعان بكون القرآن معجزة إلهية لا يحتاج إلى شرائط في السامع أزيد من كونه عربياً صميماً عارفاً بأساليب الكلام ، فإنّ ذلك كافٍ في تمييز ما هو داخل في حدود الطاقة البشرية عمّا هو خارج عنها ، ولأجل ذلك كان النبي يتحدّى بالقرآن ويدعو كلَّ الناس إلى المقابلة والمنازلة ، وقلّما يتّفق أن يسمع إنسان كلامه ولا يتأثر منه ، وإن كان أغلبهم يعارض ما يجده حقّاً في فطرته وعمق ضميره ، بأساليب شيطانية ، كما سيوافيك في قصة الوليد بن المُغيرة ، وعتبة بن ربيعة ومجمل سيرة رؤساء قريش .
هذه المزايا الثلاث تختص بمعجزته الخالدة . ولها مزايا أخرى ستقف عليها خلال المباحث الآتية .
* * *