رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ (١) . فلما سمع ذلك قام حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال : « والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمُثْمِر ، وإِنّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقْ ، وإِنّه لَيْعلو وما يُعْلى عليه » .
ثم انصرف إلى منزله (٢)
ولعلّ الوليد أوّل من تنبّه إلى عظمة القُرآن وآي الذكر الحكيم ، وهو من بُلغاء عصر الوحي وزمن نزوله ، ومن شيوخ قُريش وعوارف العرب في الأدب الجاهلي ، والخبراء بصناعة الإنشاء ، ومن هذه المنطلقات جاءت كلمته المأثورة تلك ، سبيكة مرصعة ، تعدّ أول تقريظ ناله القرآن من خبراء عصره ومصره ، وإِنْ حمله المحدثون إلينا عارياً عن التفسير . ولعمري إنّها شهادة من الخبير العدو ، الذي التجأ إلى الإعتراف بدافعٍ من ضميره ، وإن أثر عنه تفسير آخر للقرآن الكريم دفعه إليه تعلقه بدين آبائه وسنن قومه ، سيوافيك نقله . ولأجل كونِ هذه الكلمة من أُستاذ البلاغة ، كلمةً شارحةً لوجهة إعجاز القرآن في عصر الرسالة ، نشرح بعض جملها .
١ ـ قوله : « ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ » . معناه أنّ المعروف من كلام الإنس المنثور ، سبك العبارات غير مقيدة بالأسجاع والقوافي ، فإذا أتوا بهما على عفو الخاطر ، لم يلتزموا بها متقاربة قصيرة الخطوات ، بخلاف كلمات الجن التي سمعوها على أَلسنة الكهنة كعبارات مجملة صغيرة الحجم ، كثيرة المقاطع مقرونة بأسجاع وقوافي ، وعليها مسحة من غرابة الألفاظ ومجانسة الحروف وغموض المعاني (٣) .
فَلَوَّح الوليد إلى أنّ هذا القرآن ليس من هذا القبيل ؛ لا هو على أساليب
__________________
(١) سورة غافر : الآيات ١ ـ ٦ .
(٢) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٨٧ .
(٣) سنذكر فيما يأتي نماذج من كلمات سطيح الكاهن الذي كان يتكلم عن لسان الجن .