وأين للريشة في ترسيم هذه الصور لو أُريد تصويرها بالألوان ، وإلى أين للعدسة لو أُريد تصويرها بالحركات .
بل أين هي الريشة ، وأين هي العدسة ، التي تستطيع أن تبرز هذه الظلمات : ( فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ) ؟ . أو تصوّر الظمآن يسير وراء السراب : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) ، ووجد مفاجأة عجيبةً لم تكد تخطر له على بال ، وجد الله عنده ، وفي سرعة خاطفة تناوله ، فوفّاه حسابه .
٥ ـ وَمِنْ هذا الوادي تصوير معنى الضلال بعد الهدى . وضياع الجهد معه سدى ، تلك الصور المتتابعة التي يجيش بها الحسّ والخيال ، وتحيىٰ بها النفس ، يقول سبحانه :
( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ ، فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّـهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّـهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ، كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ، وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) .
إنّ هنا مشهداً من الصور المتتابعة في شرائط متحركة ؛ هؤلاء هم قد أوقدوا النار فأضاءت ، وفَجأة يذهب الله بنورهم ويُخَيِّمُ حولهم الظلام . أو ها هي ذي العاصفة صَيّبٌ من السماءِ فيه ظلمات ورعد وبرق ، وهؤلاء هم مذعورون يتوقعون الصاعقة ، ويخافون الموت ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم ، وما تغني الأصابع في الآذان ، ولكنها حركة الغريزة في هذا الأَوان . وها هو ذا البرق يخطف الأبصار ولكنه ينير الطريق لحظة ، فهم يخطون على ضوئه خطوة ، وها هوذا ينقطع فيظلّون واقفين لا يدرون كيف يَخْطون .
__________________
(١) سورة البقرة : الآيات ١٦ ـ ٢٠ .