الحق ، أو التلوّن والتحفظ في الحديث ، دليلٌ على جُبْن القائل وعدم اعتقاده بالقول الذي يلقيه على الناس ، وتخوّفه من المستمعين .
غير أنّ هذا الكتاب المعجز ، منزّه عن هذه الوصمات . فهذا هتافه في أُذن الكافرين ، يقول : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (١) .
هذه هي سيرة الأنبياء العظام ، فهم يمتلكون الصراحة في البيان ، ويمتازون بها عن غيرهم ، فيعلنون الحقائق ، بلا تتعتع ولا تحفّظ . هذا هو إبراهيم الخليل ـ بطل التوحيد ـ يندد بعمل عبدة الأصنام بقوله : ( أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (٢) .
قل لي بربِّك ، هل تجدُ كلاماً أصرح وأمتن وأبلغ في التنديد بمن يتخذ ولياً غير الله من قوله سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (٣) .
وليست الصراحة ميزة القرآن في مجال المعارف والعقائد فحسب ، بل هي سارية أيضاً في مجال العلاقات السياسية فها هو يقول : ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٤) .
هذه إلمامَةٌ عابرة في تبيين هذه الميزة ، تُعْرِب عن إيمان القائل وإذعانه بما يقول ويطرح في مختلف المجالات والأصعدة .
__________________
(١) سورة الكافرون .
(٢) سورة الأنبياء : الآيتان ٦٦ و ٦٧ .
(٣) سورة العنكبوت : الآية ٤١ .
(٤) سورة التوبة : لاحظ الآية ١ .