رهن العذوبة والأناقة فقط ، وإنّما هو رهن حلاوة ألفاظه وسمو معانيه ، ورصانة نظمه ـ على وجه لو غُيِّرت كلمة أو جملة منه ، لم يمكن أن يؤتى بدلها بلفظة هي أوفق من تلك اللفظة ـ وبداعة أسلوبه ، مجتمعة . فهذه الأُمور بجملتها ، أضفت على الكلام جمالاً رائعاً لا يجد الإنسان له مثيلاً في كلام مَنْ غَبَر وسَبَق ، أو تَبِعَ وَلَحَق . فهو بنظمه العجيب ، وأُسلوبه الغريب ، وملاحته وفصاحته الخاصة ، ومعانيه العميقة ، تحدّى الإنس والجن ، ولأجل ذلك لم يجد العرب لإغراء البسطاء ، إلّا تفسيره بالسحر ، لأنّه يأخذ بمجامع القلوب ، كما يأخذ السحر بها .
وخامساً : فإنّ المتبادر من آيات التحدّي أنّها تعرف القرآن بأنّه فوق قدرة الإنس والجن ، وأنّه مصنوع لا تصل إليه يد المخلوق ، وهذا لا يجتمع مع مذهب الصرفة الذي لا يضفي على القرآن ذاك الجمال الرائع الذي يجعله متفوّقاً على القدرة البشرية ، وإنّما يضعه في عداد كلام عامة الفصحاء والبلغاء ، غاية الأمر أنّه سبحانه ـ كلما همّت العرب بمباراته ـ صرف عنهم الهمة والقوة ومنعهم من الإتيان بما اقترحه عليهم .
وبعبارة أخرى : إنّ المتبادر من ظواهر الآيات ، أنّ القرآن في ذاته متعال ، حائز أرقى الميزات ، وكمال المعجزات ، حتى يصحّ أن يقال في حقّه بأنّه لو اجتمع الجن والإنس الخ . .
يقول الخطابي بأنّ قوله سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ ) الآية ، يشهد بخلاف هذه النظرية ، لأنّها تشير إلى أمْرٍ ، طريقُهُ التكلّف والإجتهاد ، وسبيله التأهّب والإحتشاد ، وما فُسِّرت به الصرفة لا يلائم هذه الصفة (١) .
وسادساً : فلو كان وجه الإعجاز في نكتة الصرفة ، لكفى في ذلك أن يكون القرآن كلاماً مبذولاً ومرذولاً للغاية ، وركيكاً حدّ النهاية ، لكن كلّما أراد سفلة الناس وأوباشهم ، الذين يقدرون على صنع مثل تلك الكلم ، الإتيان بمثله ، حال سبحانه بينهم وبين مباراته . وهو كما ترى ، لا يتفوّه به من له إلمام بهذه المباحث .
__________________
(١) بيان إعجاز القرآن ص ٢١ .