نبي الإسلام ، لا يعني أنّ الأمم السالفة تفرّدت بها لفضيلة استحقتها دون الخلف الصالح ، أو أنّ الأمّة الإسلامية حرمت لكونها أقلّ شأناً من الأُمم الخالية ، بل الوجه هو حاجة الأُمم السالفة إليها وغناء الأُمة الإسلامية عنها ، لأنّ المجتمعات تتفاوت إدراكاً ورشداً فربّ مجتمع يكون في أخلاقه وشعوره كالفرد القاصر ، لا يقدر على أن يحتفظ بالتراث الذي وصل إليه ، بل يضيعه ، كالطفل الذي يمزق كتابه وقرطاسه ، غير شاعر بقيمتهما .
ومجتمع آخر بلغ من القيم ، الفكرية والأخلاقية والإجتماعية ، شأواً بعيداً ، فيحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه ، بل يستثمره إستثماراً جيداً ، وهو عند ذاك غني عن كل مروّج يروّجُ دينه ، أو مُبَلِّغ يذكِّره بمنْسيَه ، أَو مُرَبٍّ يرشده إلى القيم الأخلاقية ، أو معلّم يعلّمه معالم دينه ، إلى غير ذلك من الشؤون .
فأفراد الأُمم السالفة كانوا كالقُصَر ، غير بالغين في العقلية الإجتماعية ، فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم ، بل كانوا يلعبون به لعب الصبي في الكتاتيب ، بكتابه أو قرطاسه ، فيخرقه ويمزقه ولا يبقي شيئاً ينتفع منه إلى آخر العام الدراسي . ولهذا كان على المولى سبحانه أن يبعث في كل جيل منهم نبيّاً ليذكّرهم بدينهم ، ويجدد به شريعة من قبله ، ويزيل ما علاها من شوائب التحريف .
وأمّا المجتمع البشري بعد بعثه الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد بلغ من المعرفة والإدراك والتفتّح العقلي شأواً ، يتمكن معه من حفظ تراث نبيّه وصيانة كتابه عن طوارق التحريف والضياع ، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني إلى حدّ تأسيس علوم عديدة لفهم كتابه . فازدهرت ، تحت راية القرآن ، ضروب من العلوم والفنون . فلأجل ذلك الرشد الفكري ، جعلت وظيفة التبليغ والترويج وصيانة التراث على كاهل نفس الأُمّة ، حتى تبوّأَت وظيفة الرسل في التربية والتبليغ ، واستغنت عن بعث نبي مجدد .
ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (١) .
__________________
(١) سورة آل عمران : الآية ١١٠ .