ناجاهم في فكرهم ، وكلّمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يَقَظَةٍ في الأبصار والأسماع والأَفئدة ، يُذَكِّرونَ بأَيّام الله ، وَيُخَوِّفونَ مَقامَهُ ، بِمَنْزِلَةِ الأَدلّةِ في الفَلَواتِ . . . إلى أن قال : وإِنّ للذِّكْرِ لأَهلاً أَخذُوه من الدُّنيا بَدَلاً ، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عنه يقطعون به أيام الحياة ، ويهتِفون بالزواجر عن محارم الله ، في أسماع الغافلين ، ويأمرون بالقسط ، ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة ، وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأَنّما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحققت القيامة عليهم عداتها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا ، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون . . . » (١) .
وقد تربى في أحضان علي عليه السلام ، صفوة من رجال الخير ، يُسْتَدَرّ بهم الغمام ويضنّ بهم الزمان ، كزيد وصعصعة ابني صوحان ، وأُوَيْس القَرَني ، والأَصْبَغ بن نُباتة ، ورشيد الهجري ، وميثم التّمار ، وكُميل بن زياد ، وأشباههم ، وكان هؤلاء مُثلاً للفضيلة وخزانة للعلم والأسرار ، منحهم أمير المؤمنين عليه السلام من سابغ علمه ، واستأمَنَهم على غامض أسراره ، ممّا لا يقوى على احتماله غير أمثالهم ، حتى زكت نفوسهم ، وكادوا أن يكونوا بعد التصفية ملائكة مجردة عن النقائص ، لا يعرفون الرذيلة ولا تعرفهم .
* * *
__________________
(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢١٧ .