مِنْ آياتِنَا) وحججنا (الْكُبْرى) معناه : لنريك من دلالاتنا الكبرى سوى هاتين الدلالتين. فلما حمله سبحانه الرسالة ، وأراه المعجزات أمره بالتبليغ فقال (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) فادعه إليّ (إِنَّهُ طَغى) أي تجبّر وتكبّر في كفره (قالَ) موسى عند ذلك (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) أي وسّع لي صدري حتى لا أضجر ولا أخاف ولا أغتمّ (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) أي سهّل عليّ أداء ما كلّفتني من الرسالة ، والدخول على الطاغي ودعائه إلى الحق (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) أي واطلق عن لساني العقدة التي فيها حتى يفقهوا كلامي ؛ وكان سبب تلك العقدة في لسانه جمرة طرحها في فيه وذلك لما أراد فرعون قتله لأنه أخذ بلحية فرعون ونتفها وهو طفل ، فقالت آسية بنت مزاحم : لا تفعل فإنه صبي لا يعقل ، وعلامة جهله أنه لا يميز بين الدرة والجمرة ، فأمر فرعون حتى أحضر الدرة والجمرة بين يديه فأراد موسى أن يأخذ الدرة فصرف جبرائيل يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه. استجاب الله تعالى دعاءه فأحلّ العقدة عن لسانه (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً) يؤازرني على المضي إلى فرعون ويعاضدني عليه (مِنْ أَهْلِي) لأنه إذا كان الوزير من أهله كان أولى ببذل النصح له ؛ ثم بيّن الوزير وفسّره فقال : (هارُونَ أَخِي) وكان أخاه لأبيه وأمه وكان بمصر (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) أي قوّ به ظهري وأعنّي به (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي اجمع بيني وبينه في النبوة ليكون احرص على مؤازرتي (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) أي ننزّهك عما لا يليق بك. بيّن عليهالسلام أنه إنما سأل هذه الحاجات ليتوصل بها إلى طاعة ربّه وعبادته ، وتأدية رسالته لا للرياسة (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) أي نحمدك ونثني عليك بما أوليتنا من نعمك ، ومننت به علينا من تحميل رسالتك (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أي بأحوالنا وأمورنا عالما (قالَ) الله سبحانه اجابة له (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) أي قد أعطيت مناك وطلبتك (يا مُوسى) فيما سألته ، والسؤال : المنى والمراد فيما يسأله الإنسان.
٣٧ ـ ٤٤ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) أي أنعمنا عليك من صغرك إلى كبرك جارية ، ونعمتنا عليك متوالية ، ثم قال (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) أي حين أوحينا إلى أمّك : أي ألهمناها ما يلهم ، وهو ما كان فيه سبب نجاتك من القتل (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) أي اجعليه فيه (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) يريد النيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) وهو شط البحر (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) يعني فرعون ، كان عدوا لله ولأنبيائه ، وعدوا لموسى خاصة لتصوره أن ملكه ينقرض على يده (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي جعلتك بحيث يحبّك من يراك حتى أحبّك فرعون فسلمت من شرّه ، وأحبّتك امرأته آسية بنت مزاحم فتبنّتك وربّتك في حجرها ، وحببتك إلى عبادي فلا يلقاك أحد مؤمن ولا كافر إلّا أحبّك (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي لتربى وتغذى بحياطتي وكلاءتي وحفظي (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ) المعنى : قدرنا مشي أختك وقولها (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) لأنّ هذا كان من أسباب تربية موسى على ما أراده الله ، وذلك أن أم موسى اتخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا ووضعته فيه وألقته في النيل ، وكان يشرع من النيل نهر كبير في باغ فرعون ، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ التابوت يجيء على رأس الماء ، فأمر بإخراجه فلما فتحوا رأسه إذا صبّي به من أحسن الناس وجها ، فأحبّه فرعون بحيث لا يتمالك ، وجعل موسى يبكي ويطلب اللبن ، فأمر فرعون حتى أتته النساء اللاتي كنّ حول داره فلم يأخذ موسى من لبن واحدة منهن ، وكانت أخت موسى واقفة هناك إذ أمرتها أمها أن تتبع التابوت ، فقالت : إني آتي بامرأة ترضعه ، وذلك قوله : (فَتَقُولُ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) ، أي أدلّكم على امرأة تربيه وترضعه وهي ناصحة له؟ فقالوا : نعم ، فجاءت بالأم فقبل ثديها ، فذلك قوله : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) برؤيتك وبقائك (وَلا تَحْزَنَ) من خوف قتله أو غرقه وذلك