ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ انكار. ثم ذكر سبحانه كيف عذّب المكذبين فقال : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي وكم من قرى أهلكناها وأخذناها والإختيار التاء وذلك لقوله فأمليت (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي وأهلها ظالمون بالتكذيب والكفر (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي خالية من أهلها ، ساقطة على سقوفها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطف على قوله (مِنْ قَرْيَةٍ) أي : وكم من بئر بار أهلها ، وغار ماؤها ، وتعطلت من دلائها فلا مستقى منها ، ولا وارد لها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي : وكم من قصر رفيع مجصص تداعى للخراب بهلاك أهله فلم يبق فيه داع ولا مجيب. وأصحاب الآبار ملوك البدو. وأصحاب القصور ملوك الحضر.
٤٦ ـ ٥١ ـ ثم حثّ سبحانه على الإعتبار بحال من مضى من القرون المكذبة لرسلهم فقال (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أو لم يسر قومك يا محمد في أرض اليمن والشام (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أي : يعلمون بها ما يرون من العبر والمعنى : فيعقلون بقلوبهم ما نزل بمن كذب قبلهم (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أخبار الأمم المكذبة (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الهاء في انها ضمير القصة والجملة بعدها تفسيرها ؛ قال الزجاج : وقوله التي في الصدور من التوكيد الذي يريده العرب في الكلام كقوله : (عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ، وقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) ، وقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ). والمعنى : ان الأبصار وإن كانت عمياء فلا تكون في الحقيقة كذلك إذا كان أصحابها عارفين بالحق ، وإنما يكون العمى عمى القلب الذي يقع معه الجحود بوحدانية الله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) يا محمد (بِالْعَذابِ) أن ينزل بهم ويستبطئونه (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) أي في انزال العذاب بهم. قال ابن عباس : يعني يوم بدر (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) اختلف في معناه على وجوه (احدها) معناه ان يوما من أيام الآخرة يكون كألف سنة من أيام الدنيا ، عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وابن زيد (وثانيها) ان يوما واحدا كألف سنة في مقدار العذاب لشدته وعظمته كمقدار عذاب ألف سنة من أيام الدنيا على الحقيقة ، وكذلك نعيم الجنة لأنه يكون في مقدار يوم من أيام الجنة من النعيم والسرور مثل ما يكون في ألف سنة من أيام الدنيا لو بقي منعم فيها ، ثم الكافر يستعجل ذلك العذاب لجهله عن الجبائي ، وهذا كما يقال في المثل : «أيام السرور قصار ، وأيام الهموم طوال». ثم أعلم سبحانه أنه أخذ قوما بعد الإملاء والإمهال فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) مستحقة لتعجيل العقاب (ثُمَّ أَخَذْتُها) أي أهلكتها (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) لكل أحد. ثم خاطب نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال (قُلْ) لهم (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوّف عن معاصي الله ، مبيّن لكم ما يجب عليكم فعله ، وما يجب عليكم تجنّبه (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ) (مَغْفِرَةٌ) من الله لمعاصيهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يعني نعيم الجنة فإنه أكرم نعيم في أكرم دار (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي بذلوا الجهد في إبطال آياتنا وبالغوا في ذلك ؛ واصل السعي الإسراع في المشي (مُعاجِزِينَ) أي مغالبين عن ابن عباس والمعاجزة محاولة عجز المغالب أي مقدرين أنهم يسبقوننا ، والمعاجزة : المسابقة. وقيل : ظانين أن يعجزوا الله ، أي يفوتوه وان يعجزوه (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي الملازمون للجحيم ، أي النار.
٥٢ ـ ٥٥ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الرسول : الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي والنبي : الذي يوحى إليه في منامه ، فكل رسول نبيّ وليس كل نبي رسولا وقيل : بل الرسول هو المبعوث إلى أمة ، والنبي هو الذي لا يبعث إلى أمة عن قطرب وقيل : ان الرسول هو المبتدىء