عليهم بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) بمعنى أنهم لا يشهدون ، لكن الله يشهد» ، ثم ذكر الوجه الأول.
وقرأ الجمهور بتخفيف «لكن» ورفع الجلالة ، والسّلميّ (١) والجرّاح الحكمي بتشديدها ونصب الجلالة ، وهما كالقراءتين في (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ) [البقرة : ١٠٢] وقد تقدّم ، والجمهور على «أنزله» مبينا للفاعل ، وهو الله تعالى ، والحسن (٢) قرأه «أنزل» مبنيّا للمفعول ، وقرأ السلميّ (٣) «نزّله بعلمه» مشدّدا ، والباء في «بعلمه» للمصاحبة ، أي : ملتبسا بعلمه ، فالجارّ والمجرور في محلّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : الهاء في «أنزله».
والثاني : الفاعل في «أنزله» أي : أنزله عالما به ، و (الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) مبتدأ وخبر ، يجوز أن تكون حالا أيضا من المفعول في «أنزله» ، أي : والملائكة يشهدون بصدقه ، ويجوز ألّا يكون لها محلّ ، وحكمه حينئذ كحكم الجملة الاستدراكيّة قبله ، وقد تقدّم الكلام على مثل قوله: (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ٦].
فصل
قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : إن رؤساء مكّة أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وشرّف وكرّم ومجّد وعظّم وقالوا : يا محمّد ، إنا سألنا عنك اليهود ، عن صفتك في كتابهم ، فزعموا أنّهم لا يعرفونك ودخل عليه جماعة من اليهود ، فقال لهم : «والله إنكم لتعلمن أني رسول الله». فقالوا : ما نعلم ذلك والله ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)](٤) إن جحدوك وكذّبوك ، وشهادة الله عرفت بإنزال هذا القرآن البالغ في الفصاحة إلى حيث عجز الأوّلون والآخرون عن معارضته ، فكان ذلك معجزا ، وإظهار المعجزة شهادة بكون المدّعي صادقا ، ولما كانت شهادته إنما عرفت بإنزاله بواسطة القرآن ، قال : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) لك بالنّبوّة ، بواسطة إنزال هذا القرآن عليك ، ثم بيّن صفة هذا (٥) الإنزال ، وهو أنّه ـ تعالى ـ أنزله بعلم تامّ ، وحكمة بالغة. فقوله بغاية الحسن ونهاية الكمال ؛ كما يقال في الرّجل المشهور بكمال الفضل والعلم ، إذا صنّف كتابا واستقصى في تحريره : إنّه إنما صنّف هذا بكمال علمه وفضله ، يعني : أنه اتّخذ جملة علومه وسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب ، فيدلّ ذلك على وصف ذلك التّصنيف
__________________
(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٣٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٤١٥ ، والدر المصون ٢ / ٤٦٧.
(٢) ينظر القراءة السابقة.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤١٥ ، والدر المصون ٢ / ٤٦٧.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٤٠٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٣٩) وزاد نسبته لابن إسحق والبيهقي في الدلائل والخبر في «السيرة النبوية» لابن هشام (٢ / ٢١١) عن ابن عباس.
(٥) في ب : ذلك.