بالدولة القاهرة ، وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم ، وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم ، وإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم وأن تقبلوا على طاعة الله تعالى ، والعمل بشرائعه.
وفي قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) قولان :
الأول : يئسوا من أن يحلّلوا الخبائث بعد أن جعلها الله محرمة.
والثاني : يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم ؛ لأنّ الله تعالى قد وعد بإعلاء هذا الدين على كلّ الأديان بقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة : ٣٣] فحقّق ذلك النّصر ، وأزال الخوف.
واستدلّوا بهذه الآية على أنّ التقيّة جائزة عند الخوف ؛ لأنّ الله تعالى أمرهم بإظهار الشّرائع عند زوال الخوف من الكفّار ، فدلّ على جواز تركها عند الخوف (١).
قوله سبحانه وتعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) في قوله : «اليوم» [كالكلام في «اليوم»](٢) قبله.
نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجّة الوداع ، والنبيّ صلىاللهعليهوسلم [وشرف وكرم ومجد وعظم](٣) واقف بعرفات على ناقته العضباء فكاد عضد الناقة ينقدّ من ثقلها ، فبركت.
عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ رجلا من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر يهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : أيّ آية؟ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على النبي صلىاللهعليهوسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة (٤).
أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان لنا عيدا.
قال ابن عباس : كان ذلك اليوم خمسة أعياد ، جمعة وعرفة وعيد اليهود والنّصارى والمجوس ، ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده (٥).
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم «ما يبكيك يا عمر؟» فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، [فأما إذ](٦) كمل فإنّه لم يكمل (٧) شيء إلا نقص ، قال : «صدقت» ، فكانت هذه الآية نعي النبي صلىاللهعليهوسلم (٨).
__________________
(١) في ب : عند قيام الخوف.
(٢) في ب : الكلام في قوله.
(٣) سقط في ب.
(٤) تقدم في سورة البقرة.
(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ١٠).
(٦) في أ : فإذا.
(٧) في أ : يبق.
(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٩ / ٥٢٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٥٦) وزاد نسبته لابن أبي شيبة عن هارون بن عنترة عن أبيه.