الآخرة ، فإن كان موضع الإلزام عذاب الدّنيا ، فهذا لا يقدح في ادّعائهم كونهم أحبّاء الله ؛ لأنّ محمّدا صلىاللهعليهوسلم كان يدعى هو وأمّته أحبّاء الله ، ثم إنّهم ما خلوا عن محن الدّنيا كما في وقعة أحد وغيرها ، وإن كان موضع الإلزام هو أنّه تعالى سيعذّبهم في الآخرة ، فالقوم ينكرون ذلك ، ومجرد إخبار محمّد ـ عليهالسلام ـ ليس بكاف في هذا الباب ، فكان هذا استدلالا ضائعا.
الجواب : من وجوه :
أحدها : أنّ موضع الإلزام هو عذاب الدّنيا ، والمعارضة بيوم أحد غير لازمة ؛ لأنّا نقول : لو كانوا أبناء الله وأحباءه ، لم عذّبهم في الدّنيا؟ ومحمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنّما ادّعى أنّه من أحبّاء الله ولم يدّع أنّه من أبناء الله.
الثاني : أنّ موضع الإلزام عذاب الآخرة ، واليهود والنّصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة ، كما أخبر الله عنهم أنّهم قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠].
الثالث : أن قوله : (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) أي : لم عذّب من قبلكم بذنوبهم فمسخهم قردة وخنازير ، إلّا أنّهم لما كانوا من جنس أولئك المتقدّمين ، حسنت (١) هذه الإضافة وهذا أولى ؛ لأنّه تعالى لم يكن ليأمر رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يحتجّ عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود.
قال تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) كسائر بني آدم يجزون بالإحسان والإساءة ، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) : فضلا ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) : عدلا ، ليس لأحد عليه [حقّ يوجب عليه](٢) أن يغفر له ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.
ومذهب المعتزلة (٣) : أنّ كلّ من أطاع الله واحترز عن الكبائر ، فإنّه يجب على الله عقلا إيصال الرّحمة والنّعمة إليه أبد الآباد ، ولو قطع عنه تلك النّعمة لحظة واحدة لبطلت الإلهيّة ، وهذا أعظم من قول اليهود والنّصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه.
كما أنّ قوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) إبطالا لقول اليهود ، فبأن يكون إبطالا لقول (٤) المعتزلة أولى.
ثم قال تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) يعني : من كان هكذا أو قدرته هكذا ، كيف يستحق البشر الضّعيف عليه حقا واجبا؟ وكيف يملك عليه الجاهل بعبادته (٥) النّاقصة دينا لازما؟ (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف : ٥].
__________________
(١) في أ : حيث.
(٢) سقط في أ.
(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١٥٣.
(٤) في أ : لقوله.
(٥) في ب : لعمادته.