قال أبو قلابة : هؤلاء قتلوا وسرقوا ، وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا ، فنزلت هذه نسخا لفعل النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ (١) فصارت السّنّة منسوخة بهذا القرآن العظيم ، ومن قال إنّ السّنّة لا تنسخ بالقرآن قال : إنما كان النّاسخ لتلك السّنّة سنّة أخرى ، ونزل هذا القرآن العظيم مطابقا للسّنّة النّاسخة.
وقال بعضهم (٢) : حكمهم ثابت إلا السّمل والمثلة ، وروى قتادة عن ابن سيرين أنّ ذلك قبل أن تنزل الحدود.
قال أبو الزّناد : ولما فعل رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ذلك بهم أنزل الله الحدود ، ونهاه عن المثلة فلم يعد (٣) ، وعن قتادة قال : بلغنا أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم [بعد
__________________
ـ والمرجع إلى تفسير المراد بالمحاربة ، فمن حملها على الكفر خص الآية بأهل الكفر ومن حملها على المعصية عمم ، ثم نقل ابن بطال عن إسماعيل القاضي أن ظاهر القرآن وما مضى عليه عمل المسلمين يدل على أن الحدود المذكورة في هذه الآية نزلت في المسلمين ، وأما الكفار فقد نزل فيهم : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) إلى آخر الآية فكان حكمهم خارجا عن ذلك. وقال تعالى في آية المحاربة : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) وهي دالة على أن من تاب من المحاربين يسقط عنه الطلب بما ذكر بما جناه فيها ، ولو كانت الآية في الكافر لنفعته المحاربة ، ولكان إذا أحدث الحرابة مع كفره اكتفينا بما ذكر في الآية وسلم من القتل فتكون الحرابة خففت عنه القتل ، وأجيب عن هذا الإشكال بأنه لا يلزم من إقامة هذه الحدود على المحارب المرتد مثلا أن تسقط عنه المطالبة بالعود إلى الإسلام أو القتل وما نقله المصنف عن سعيد بن جبير أن معنى المحاربة لله الكفر به وأخرج الطبري من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في آخر قصة العرنيين قال : فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، وأخرج نحوه من وجه آخر عن أنس وأخرج الإسماعيلي هناك من طريق مروان بن معاوية عن معاوية بن أبي العباس عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال هم من عكل. قلت : قد ثبت في الصحيحين أنهم كانوا من عكل وعرينة ، فقد وجد التصريح الذي نفاه ابن بطال ، والمعتمد أن الآية نزلت أولا فيهم وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق ، لكن عقوبة الفريقين مختلفة : فإن كانوا كفارا يخير الإمام فيهم إذا ظفر بهم ، وإن كانوا مسلمين فعلى قولين : أحدهما : وهو قول الشافعي والكوفيين ينظر في الجناية فمن قتل قتل ومن أخذ المال قطع ومن لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي ، وجعلوا «أو» للتنويع ، وقال مالك : بل هي للتخيير فيتخير الإمام في المحارب المسلم بين الأمور الثلاثة ، ورجح الطبري الأول ، واختلفوا في المراد بالنفي في الآية : فقال مالك والشافعي يخرج من بلد الجناية إلى بلدة أخرى ، زاد مالك فيحبس فيها. وعن أبي حنيفة بل يحبس في بلده ، وتعقب بأن الاستمرار في البلد ولو كان مع الحبس إقامة فهو ضد النفي فإن حقيقة النفي الإخراج من البلد ، وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) وحجة أبي حنيفة أنه لا يؤمن منه استمرار المحاربة في البلدة الأخرى ، فانفصل عنه مالك بأنه يحبس بها ، وقال الشافعي : يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانا وذلا.
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٩٢) عن أبي قلابة وعزاه للحافظ عبد الغني في «إيضاح الإشكال».
(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٣٢.
(٣) أخرجه البيهقي في «سننه» (٨ / ٢٨٣) عن أبي الزناد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٩١) وعزاه للبيهقي وحده وينظر : البغوي ٢ / ٣٢.