قوله سبحانه : (فِيها هُدىً) يحتمل الوجهين المذكورين في قوله : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) ، ف «هدى» مبتدأ أو فاعل ، والجملة حال من «التّوراة».
وقوله : «يحكم بها» يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، ويجوز أن تكون منصوبة المحلّ على الحال ، إمّا من الضّمير في «فيها» ، وإمّا من «التّوراة».
وقوله : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة ل «النّبيّون» ، وصفهم بذلك على سبيل المدح ، والثّناء ، لا على سبيل التّفصيل ؛ فإنّ الأنبياء كلّهم مسلمون ، وإنّما أثنى عليهم بذلك ، كما تجري الأوصاف على أسماء الله تعالى.
قال الزّمخشريّ (١) : أجريت على النّبيّين على سبيل المدح كالصفات الجارية على القديم ـ سبحانه ـ لا للتفصلة والتوضيح ، وأريد بإجرائها التّعريض باليهود ، وأنّهم بعداء من ملّة الإسلام الذي هو دين الأنبياء كلّهم في القديم والحديث ، فإن اليهود بمعزل عنها.
وقوله تعالى : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) منار على ذلك ، أي : دليل على ما ادّعاه.
فإن قلت : (هُدىً وَنُورٌ) العطف يقتضي المغايرة ، فالهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع (٢) والتكاليف ، والنّور بيان التّوحيد ، والنّبوّة ، والمعاد.
وقال الزّجّاج (٣) : الهدى بيان الحكم الذي يستفتون فيه النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، والنور بيان أنّ أمر النبيّ [صلى الله عليه وعلى آله وسلم] حقّ.
وقوله : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) يريد الذين كانوا بعد موسى [عليهالسلام].
وقوله (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) أي : سلّموا وانقادوا لأمر الله كما أخبر عن إبراهيم [عليهالسلام] : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] ، وكقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [آل عمران : ٨٣].
وأراد بالنبيّين الذين بعثوا بعد موسى [عليه وعليهمالسلام] ليحكموا بما في التوراة [وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإنّ من النبيين من لم يحكم بحكم التوراة منهم](٤) عيسى [عليه الصلاة والسلام] قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً).
وقال الحسن والزهري وعكرمة ، وقتادة والسديّ : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين هم محمّد [صلى الله عليه وعلى آله وسلم] حكم على اليهود بالرجم (٥) ، وكان هذا حكم التّوراة ، وذكره بلفظ الجمع تعظيما له كقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [النحل : ١٢٠] وقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) [النساء : ٥٤] لأنه كان قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلا لأكثر الأنبياء.
__________________
(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٣٦.
(٢) في أ : بيان الأحكام.
(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٣.
(٤) سقط في أ.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٨٩) عن عكرمة.