وأمّا قوله : «يسبقها قول» إصلاحه أن يقول : «ما هو بمعنى القول لا حروفه» ، ثم قال : ويمكن تصحيح هذا القول بأن يكون التّقدير : وأمرناك ، ثم فسّر هذا الأمر ب «احكم» ، ومنع الشّيخ من تصحيح هذا القول بما ذكره أبو البقاء ، قال : لأنّه لم يحفظ من لسانهم حذف الجملة المفسّرة ب «أن» وما بعدها ، وهو كما قال. وقراءتا ضمّ نون «أن» وكسرها واضحتان ممّا تقدّم في البقرة : الضمّة للإتباع ، والكسر على أصل التقاء السّاكنين.
والضّمير في «بينهم» : إمّا لليهود خاصّة ، وإمّا لجميع المتحاكمين.
فإن قيل : قالوا : هذه الآية ناسخة للتّخيير في قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢] ، وأعاد ذكر الأمر بالحكم بعد ذكره أوّلا : إما للتّأكيد ، وإمّا لأنّهما حكمان أمر بهما جميعا ؛ لأنّهم احتكموا إليه في زنا المحصن ، ثمّ احتكموا إليه في قتل كائن فيهم.
قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) قال ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ : يردّوك إلى أهوائهم (١).
وقد ذكرنا أنّ اليهود اجتمعوا وأرادوا إيقاعه في تحريف دينه فعصمه الله عن ذلك ، فإن كلّ من صرف من الحقّ إلى الباطل فقد فتن ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) والفتنة هاهنا : الميل عن الحقّ والإلقاء في الباطل ، وكان ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ يقول : «أعوذ بك من فتنة المحيا» (٢) ، قال : هو أن يعدل عن الطّريق.
قال العلماء (٣) ـ رضي الله عنهم ـ : هذه الآية تدلّ على أنّ الخطأ والنّسيان جائز على الرّسل ؛ لأن الله قال : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) ، والتّعمّد في مثل هذا غير جائز على الرّسل فلم يبق إلا الخطأ والنسيان (٤).
قوله تعالى : (أَنْ يَفْتِنُوكَ) فيه وجهان :
أظهرهما : أنّه مفعول من أجله ، أي : احذرهم مخافة أن يفتنوك.
والثاني : أنّها بدل من المفعول على جهة الاشتمال ، كأنّه [قال] : واحذرهم فتنتهم ، كقولك : «أعجبني زيد علمه».
وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا).
قال ابن عطيّة (٥) : قبله محذوف يدلّ عليه الظّاهر ، تقديره : «لا تتّبع واحذر ، فإن حكّموك مع ذلك ، واستقاموا لك فنعمّا ذلك وإن تولّوا فاعلم».
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٣.
(٢) تقدم.
(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٣.
(٤) في أ : والرسل.
(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٢.