وقوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) ابتداء وخبر ، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب ، و «صدّيقة» تأنيث «صدّيق» ، وهو بناء مبالغة ك «فعّال» و «فعول» ، إلا أنه لا يعمل عمل أمثلة المبالغة ، فلا يقال : «زيد شرّيب العسل» ؛ كما يقال : «شرّاب العسل» ، وإن كان القياس إعماله ، وهل هو من «صدق» الثلاثيّ ، أو من «صدّق» مضعّفا؟ القياس يقتضي الأول ، لأنّ أمثلة المبالغة تطّرد من الثلاثي دون الرباعيّ ، فإنه لم يجىء منه إلا القليل ، وقال الزمخشري (١) : «إنه من التّصديق» ، وكذا ابن عطية (٢) ، إلا أنّه جعله محتملا ، وهذا واضح لقوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) [التحريم : ١٢] ، فقد صرّح بالفعل المسند إليها مضعّفا ، وعلى الأول معناه أنّها كثيرة الصّدق.
وقوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) لا محلّ له ؛ لأنه استئناف وبيان لكونهما كسائر البشر في احتياجهما إلى ما يحتاج إليه كلّ جسم مولد ، والإله الحقّ سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك ، وقال بعضهم : «هو كناية عن احتياجهما إلى التّغوّط» وهو ضعيف من وجوه :
الأول : أنّه ليس كلّ من أكل أحدث ، فإنّ أهل الجنّة يأكلون ولا يحدثون.
الثاني : أنّ الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطّعام ، وهذه الحاجة من أقوى الدّلائل على أنّه ليس بإله ، فأي حاجة إلى جعله كناية عن شيء آخر؟
الثالث : أنّ الإله هو القادر على الخلق والإيجاد ، فلو كان إلها لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطّعام ، فلمّا لم يقدر على دفع الضّرر عن نفسه ، كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين؟!
والمقصود من هذا : الاستدلال على فساد قول النّصارى ، فإنّ من كان له أمّ فقد حدث بعد أن لم يكن ، وكلّ من كان كذلك كان مخلوقا لا إلها ، وكلّ من احتاج إلى الطّعام أشدّ الحاجة لم يكن إلها ؛ لأنّ الإله هو الّذي يكون غنيّا عن جميع الأشياء ، وبالجملة فساد قول النّصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل.
قوله تعالى : (كَيْفَ) منصوب بقوله : «نبيّن» بعده ، وتقدم ما فيه في قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) [البقرة : ٢٨] وغيره ، ولا يجوز أن يكون معمولا لما قبله ؛ لأن له صدر الكلام ، وهذه الجملة الاستفهامية في محلّ نصب ؛ لأنها معلّقة للفعل قبلها ، وقوله : (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كالجملة قبلها ، و «أنّى» بمعنى «كيف» ، و «يؤفكون» ناصب ل «أنّى» ويؤفكون : بمعنى يصرفون.
وفي تكرير الأمر بقوله : «انظر» «ثمّ انظر» دلالة على الاهتمام بالنظر ، وأيضا : فقد اختلف متعلّق النظرين ؛ فإنّ الأول أمر بالنظر في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآيات ، وبيانها ؛ بحيث إنه لا شكّ فيها ولا ريب ، والأمر الثاني بالنّظر في كونهم صرفوا عن
__________________
(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٥.
(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٢.