وقال الراغب : «والرّهبان يكون واحدا وجمعا ، فمن جعله واحدا ، جمعه على رهابين ، ورهابنة بالجمع أليق» ، يعني : أن هذه الصيغة غلبت في الجمع كالفرازنة والموازجة والكيالجة ، وقال الليث : «الرّهبانيّة مصدر الراهب والتّرهّب : التعبّد في صومعة» ، وهذا يشبه الكلام المتقدّم في أن القسوسة مصدر من القسّ والقسّيس ، ولا حاجة إلى هذا ، بل الرّهبانيّة مصدر بنفسها من الترهّب ، وهو التعبّد أو من الرّهب ، وهو الخوف ، ولذلك قال الراغب : «والرهبانيّة غلوّ من تحمّل التعبّد من فرط الرّهبة» ، وقد تقدّم اشتقاق هذه المادة في قوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠].
وعلّة هذا التّفاوت : أنّ اليهود مخصوصون بالحرص الشّديد على الدّنيا ، قال : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [البقرة : ٩٦] لقربهم في الحرص بالمشركين المنكرين للمعاد ، والحرص معدن الأخلاق الذّميمة ، لأن من كان حريصا على الدّنيا طرح دينه في طلب الدّنيا ، وأقدم على كل محظور منكر بسبب طلب الدّنيا ، فلا جرم تشتدّ عداوته مع كلّ من نال مالا وجاها ، وأمّا النّصارى ، فإنّهم في أكثر الأمر معرضون عن الدّنيا ، مقبلون على العبادة ، وترك طلب الرّياسة والتكبّر والتّرفّع ، وكلّ من كان كذلك ، فإنّه لا يحسد النّاس ولا يؤذيهم ، بل يكون ليّن العريكة في طلب الحقّ ، سهل الانقياد له ، فهذا هو الفرق بين هذين الفريقين ، وهو المراد بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).
وفيه دقيقة نافعة في طلب الدّين ، وهو أنّ كفر النّصارى أغلظ من كفر اليهود ؛ لأنّ النّصارى ينازعون في الإلهيّات والنّبوّات ، واليهود : لا ينازعون إلّا في النّبوّات ، ولا شكّ أن الأوّل أغلظ ؛ لأنّ النّصارى مع غلظ كفرهم ، لم يشتدّ حرصهم على طلب الدّنيا ، بل كان في قلبهم شيء من الميل إلى الآخرة ، شرّفهم الله بقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى).
وأمّا اليهود مع أنّ كفرهم أخفّ من كفر النّصارى ، طردهم الله وخصّهم بمزيد اللّعنة ، وما ذلك إلّا بسبب تهالكهم على الدّنيا ، ويؤيّد ذلك قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة» (١).
__________________
(١) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (١٠٥٠١) عن الحسن مرسلا وأسنده الديلمي في الفردوس وتبعه ولده بلا إسناد عن علي رفعه به ، وهو عند البيهقي أيضا في الزهد وأبي نعيم في ترجمة الثوري من الحلية من قول عيسى ابن مريم عليهالسلام وعند ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان له .. من قول مالك بن دينار. وعند ابن يونس في ترجمة سعد بن مسعود التجيبي من تاريخ مصر له ، من قول سعد هذا. وجزم ابن تيمية بأنه من قول جندب البجلي رضي الله عنه. وبالأول يرد عليه وعلى غيره ممن صرح بالحكم عليه بالوضع ، لقول ابن المديني مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح ، ما أقل ما يسقط منها ، وقال أبو زرعة كل شيء يقوله الحسن ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث وليته ذكرها ، وقال الدار قطني في مراسيله ضعف ، وللديلمي عن أبي هريرة رفعه : ـ