قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ في رواية عطاء : يريد النّجاشي وأصحابه (١) ، قرأ عليهم جعفر بالحبشة «كهيعص» فأخذ النّجاشيّ نبتة من الأرض ، وقال : والله ما زاد على ما قال في الإنجيل مثل هذه مثلا ، فما زالوا يبكون ، حتى فرغ جعفر من القراءة ، واختاره ابن عطيّة (٢) ، قال : «لأنّ كل النصارى ليسوا كذلك».
و «ما» في «ما أنزل» تحتمل الموصولة ، والنكرة الموصوفة ، وقوله تعالى : (تَرى) بصريّة ، فيكون قوله «تفيض من الدّمع» جملة في محلّ نصب على الحال.
وقرىء (٣) شاذّا : «ترى» بالبناء للمفعول ، «أعينهم» رفعا ، وأسند الفيض إلى الأعين ؛ مبالغة ، وإن كان الفائض إنّما هو دمعها لا هي ؛ كقول امرىء القيس : [الطويل]
٢٠٤٣ ـ ففاضت دموع العين منّي صبابة |
|
على النّحر حتّى بلّ دمعي محملي (٤) |
والمراد : المبالغة في وصفهم بالبكاء ، أو يكون المعنى أنّ أعينهم تمتلىء حتى تفيض ؛ لأنّ الفيض ناشىء عن الامتلاء ؛ كقوله : [الطويل]
٢٠٤٤ ـ قوارص تأتيني وتحتقرونها |
|
وقد يملأ الماء الإناء فيفعم (٥) |
وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريّ ؛ فإنه قال (٦) : «فإن قلت : ما معنى «تفيض من الدّمع»؟ قلت : معناه تمتلىء من الدمع حتّى تفيض ؛ لأنّ الفيض أن يمتلىء الإناء حتّى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء ، وهو من إقامة المسبّب مقام السّبب ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء ، فجعلت أعينهم ، كأنها تفيض بأنفسها ، أي : تسيل من الدمع ؛ من أجل البكاء ، من قولك : دمعت عينه دمعا».
قوله تعالى (مِنَ الدَّمْعِ) فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه متعلّق ب «تفيض» ، ويكون معنى «من» ابتداء الغاية ، والمعنى : تفيض من كثرة الدمع.
والثاني : أنه متعلّق بمحذوف ؛ على أنه حال من الفاعل في «تفيض» قالهما أبو البقاء (٧) ، وقدّر الحال بقولك : «مملوءة من الدمع» ، وفيه نظر ؛ لأنه كون مقيّد ، ولا يجوز ذلك ، فبقي أن يقدّر كونا مطلقا ، أي : تفيض كائنة من الدمع ، وليس المعنى على ذلك ، فالقول بالحالية لا ينبغي ، فإن قيل : هل يجوز عند الكوفيين أن يكون (مِنَ الدَّمْعِ)
__________________
(١) تقدم.
(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٦.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨ ، والدر المصون ٢ / ٥٩٣.
(٤) ينظر : ديوانه (٩) ، شرح القصائد للتبريزي ٨٥ ، البحر المحيط ٤ / ٧ ، الدر المصون ٢ / ٥٩٣.
(٥) البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٦٥٧ ، البحر ٤ / ٥ اللسان ، قرص ، ابن يعيش ١ / ٢١ الدر المصون ٢ / ٥٩٣.
(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٩.
(٧) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٤.