فإن قيل : لم شرط دفع الجناح عن تناول المطعومات بشرط الإيمان والتّقوى ؛ مع أنّ المعلوم أن من لم يؤمن ومن لم يتّق ، ثمّ تناول شيئا من المباحات فإنّه لا جناح عليه في ذلك التّناول ، بل إنما عليه جناح في ترك التّقوى والإيمان ، إلّا أن ذلك لا تعلّق له بتناول ذلك المباح ، فذكر هذا الشّرط في هذا المعرض غير جائز.
فالجواب : ليس هذا اشتراط ، بل لبيان أنّ أولئك الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية ، كانوا على هذه الصّفة ثناء عليهم ، وحمدا لأحوالهم في الإيمان والتّقوى والإحسان.
ومثاله أن يقال لك : «هل على زيد فيما فعل جناح» ، وقد علمت أنّ ذلك الأمر مباح ؛ فتقول : ليس على أحد جناح في المباح إذا اتّقى المحارم وكان مؤمنا محسنا ، تريد أنّ زيدا إن بقي مؤمنا محسنا ، فإنّه غير مؤاخذ بما فعل.
فصل
قال ابن الخطيب (١) : زعم بعض الجهّال : أنّ [الله](٢) تعالى لمّا بيّن في الخمر أنّها محرّمة عند ما تكون موقعة للعداوة والبغضاء ، وصادّة عن ذكر الله وعن الصّلاة ، بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعمها ، إذا لم يحصل معه شيء من تلك (٣) المفاسد ، بل حصّل أنواع المصالح من التّقوى والطّاعة (٤) والإحسان إلى الخلق ، قالوا : ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التّحريم ؛ لأنه لو كان المراد ذلك لقال : ما كان جناح على الّذين طعموا ، كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة ، فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] ولكنه لم يقل ذلك ، بل قال : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، إلى قوله تعالى: (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ، وهذا للمستقبل لا للماضي ، وهذا القول مردود بإجماع الأمّة ، وقولهم: إنّ كلمة «إذا» للمستقبل ، فجوابه : ما روى أبو بكر الأصمّ ـ رحمهالله ـ أنّه لمّا نزل تحريم الخمر ، قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : يا رسول الله كيف بإخواننا الّذين ماتوا ، وقد شربوا الخمر ، وفعلوا القمار ، وكيف بالغائبين عنّا في البلدان لا يشعرون أنّ الله حرّم الخمر وهم يطعمونها (٥) ؛ فأنزل الله هذه الآيات ، وعلى هذا التقدير ، فالحلّ قد ثبت في الزّمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية ، لكن في حقّ الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النّصّ.
قوله تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي : أنّه تعالى ما جعل الإحسان شرطا في نفي الجناح فقط ، بل وفي أن يحبّه الله ، وهذا أشرف الدرجات.
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٧٠.
(٢) سقط في أ.
(٣) في ب : ذلك.
(٤) في ب : الطاعة والتقوى.
(٥) تقدم.