الحرام وفي الشّهر الحرام ، فلمّا حصل الأمن في هذا المكان ، وفي هذا الزّمان ، قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا المكان ، فاستقامت مصالح معايشهم ، وهذا التّدبير لا يمكن إلّا إذا كان في الأزل عالما بجميع المعلومات من الكلّيّات والجزئيّات ، وأنّه بكلّ شيء عليم.
وقيل في الجواب : أنّ الله جعل الكعبة قياما للنّاس ، لأنّه يعلم صلاح العباد ، كما يعلم ما في السّماء وما في الأرض.
وقال الزّجّاج (١) : وقد سبق في هذ السّورة الإخبار عن الغيوب ، والكشف عن الأسرار ، مثل قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) [المائدة : ٤١] ، ومثل إخباره بتحريفهم الكتب (٢) فقوله ذلك ليعلموا أنّ الله يعلم ما في السّموات وما في الأرض راجع إليه.
وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، لمّا ذكر تعالى أنواع رحمته لعباده ، ذكر بعده شدّة العقاب ؛ لأنّ الإيمان لا يتمّ إلا بالرّجاء والخوف.
قال ـ عليهالسلام ـ : «لو وزن المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» (٣) ، ثمّ ذكر بعده ما يدلّ على الرّحمة ، وهو كونه غفورا رحيما ، وهذا يدلّ على أنّ جانب الرّحمة أغلب ؛ لأنّه تعالى ذكر فيما قبل أنواع رحمته وكرمه ، ثمّ ذكر أنّه شديد العقاب ، ثمّ ذكر عقيبه وصفين من أوصاف الرحمة ، وهو كونه غفورا رحيما ، وهذا يدلّ على تغليب جانب الرّحمة على جانب العذاب.
قوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) لما قدّم التّرغيب والتّرهيب بقوله : (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أتبعه بذكر التّكليف ، فقال تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) يعني : أنّه مكلّف بالتّبليغ ، فلما بلّغ خرج عن العهدة ، وبقي الأمر من جانبنا ، وإذا علم بما تبدون وما تكتمون فإن خالفتم ، فاعلموا أنّ الله شديد العقاب ، وإن أطعتم فاعلموا أنّ الله غفور رحيم.
قوله : (إِلَّا الْبَلاغُ) : في رفعه وجهان :
أحدهما : أنه فاعل بالجارّ قبله ؛ لاعتماده على النفي ، أي : ما استقرّ على الرّسول إلا البلاغ.
والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره الجارّ قبله ، وعلى التقديرين ، فالاستثناء مفرّغ.
والبلاغ يحتمل أن يكون مصدرا [ل «بلّغ» مشدّدا ، أي : ما عليه إلا التبليغ ، فجاء على حذف الزوائد ، ك «نبات» بعد «أنبت» ، ويحتمل أن يكون مصدرا] ل «بلغ» مخفّفا
__________________
(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٦٨.
(٢) في أ : الكذب.
(٣) تقدم.