ثمّ قال : إنّ القرآن نزل منه آي قد مضى تأويلهنّ قبل أن ينزلن ، ومنه آي : وقع تأويلهنّ (١) على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومنه آي : وقع تأويلهنّ بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيسير ، ومنه آي : وقع تأويلهن في آخر الزّمان ، ومنه آي : وقع تأويلهنّ يوم القيامة ، وهو ما ذكر من الحساب والجنّة والنّار ، فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ، ولم تلبسوا شيعا ، ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فأمروا وانهوا ، فإن اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه ، فعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية.
قال ابن الخطيب (٢) : وهذا التّأويل عندي ضعيف ؛ لأنّ الآية خطاب عامّ للحاضر والغائب ، فكيف يخرج الحاضر ، ويخصّ الغائب. وروى أبو أميّة الشّعبانيّ قال : أتيت أبا ثعلبة ، فقلت : كيف نصنع في هذه الآية؟ فقال : أيّ آية؟ قلت : قول الله ـ عزوجل ـ : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتّى إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متّبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا بدّ لك منه ، فعليك نفسك ودع أمر العوامّ ، وإنّ وراءكم أيام الصّبر ، فمن صبر فيهنّ قبض على الجمر للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثله ، قال ابن المبارك : وزادني غيره ، قالوا : يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال : أجر خمسين منكم (٣).
فإن قيل : ظاهر الآية يوهم أنّ الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر غير واجب.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنّ الآية لا تدلّ على ذلك ، بل تدلّ على أنّ المطيع لا يؤاخذ بذنوب العاصي ، وأمّا وجوب الأمر بالمعروف ، فثبت بما تقدّم من الدّلائل وغيرها.
وثانيها : أنّ الآية مخصوصة بالكفّار المصرّين على الكفر ، ولا يتركون الكفر بسبب الأمر بالمعروف ، فههنا يجب على الإنسان مخالفة الأمر بالمعروف.
وثالثها : أنّ الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر على نفسه وعرضه وماله.
ورابعها : المعنى : لا يضرّكم إذا اهتديتم ، فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ضلال من ضلّ ، فلم يقبل ذلك.
وخامسها : أنّه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ
__________________
(١) في أ : تأويلان.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٩٣.
(٣) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٩٢ ، والطبراني في الكبير ١٧ / ١٣٨ ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٠٢) ، وذكره المجمع نحوه من طريق العرس بن عميرة وعزاه للطبراني وقال : رجاله ثقات.