قال الزمخشريّ (١) : «ولو أريد بالعذاب ما يعذّب به ، لكان لا بدّ من الباء» قال شهاب الدين : إنما قال ذلك ؛ لأنّ إطلاق العذاب على ما يعذّب به كثير ، فخاف أن يتوهّم ذلك ، وليس لقائل أن يقول : كان الأصل : بعذاب ، ثم حذف الحرف ؛ فانتصب المجرور به ؛ لأنّ ذلك لم يطّرد إلّا مع «أن» و «أنّ» بشرط أمن اللّبس.
قوله : (لا أُعَذِّبُهُ) الهاء فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها عائدة على «عذاب» الذي تقدّم أنه بمعنى التعذيب ، والتقدير : فإنّي أعذّبه تعذيبا لا أعذّب مثل ذلك التّعذيب أحدا ، والجملة في محلّ نصب صفة ل «عذابا» ، وهذا وجه سالم من تكلّف ستراه في غيره ، ولمّا ذكر أبو البقاء (٢) هذا الوجه ـ أعني عودها على «عذابا» المتقدّم ـ قال : «وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : على حذف حرف الجر ، أي : لا أعذّب به أحدا ، والثاني : أنه مفعول به على السّعة». قال شهاب الدين (٣) : أمّا قوله «حذف الحرف» ، فقد عرفت أنه لا يجوز إلا فيما استثني.
الثاني ـ من أوجه الهاء ـ : أنها تعود على «من» المتقدّمة في قوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ) ، والمعنى : لا أعذّب مثل عذاب الكافر أحدا ، ولا بدّ من تقدير هذين المضافين ؛ ليصحّ المعنى ، قال أبو البقاء (٤) في هذا الوجه : «وفي الكلام حذف أي : لا أعذّب الكافر ، أي : مثل الكافر ، أي : مثل عذاب الكافر».
الثالث : أنها ضمير المصدر المؤكّد ؛ نحو : «ظننته زيدا قائما» ، ولمّا ذكر أبو البقاء (٥) هذا الوجه ، اعترض على نفسه ، فقال : «فإن قلت : (لا أُعَذِّبُهُ) صفة ل «عذاب» ، وعلى هذا التقدير لا يعود من الصفة على الموصوف شيء ، قيل : إنّ الثاني لما كان واقعا موقع المصدر والمصدر جنس ، و «عذابا» نكرة ، كان الأوّل داخلا في الثاني ، والثاني مشتمل على الأوّل ، وهو مثل : زيد نعم الرّجل». انتهى ، فجعل الرابط العموم ، وهذا الذي ذكره من أنّ الربط بالعموم ، إنما ذكره النحويّون في الجملة الواقعة خبرا لمبتدأ ، ولذلك نظّره أبو البقاء ب «زيد نعم الرّجل» ، وهذا لا ينبغي أن يقاس عليه ؛ لأن الربط يحصل في الخبر بأشياء لا تجوز في الجملة الواقعة صفة ، وهذا منها ، ثم هذا الاعتراض الذي ذكره وارد عليه في الوجه الثاني ؛ فإنّ الجملة صفة ل «عذابا» ، وليس فيها ضمير ، فإن قيل : ليست هناك بصفة ، قيل : يفسد المعنى بتقدير الاستئناف ، وعلى تقدير صحّته ، فلتكن هنا أيضا مستأنفة ، و «أحدا» منصوب على المفعول الصريح ، و (مِنَ الْعالَمِينَ) صفة ل «أحدا» فيتعلّق بمحذوف.
__________________
(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٩٣.
(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٣.
(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٥٤.
(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٣.
(٥) ينظر : المصدر السابق.