الزمانية والمكانية والأجهزة الدماغية تأثير في الإدراكات الإنسانية ، فليس في وسع الإنسان أن ينال الواقع على ما هو عليه ، وأن ترد على ذهنه صورة مطابقة له ، مطابَقَةَ الفرعِ للأصل ، بل كل ما يحكيه الإنسان بتصوراته وتصديقاته عن واقع الكون ونفس الأمر ، فإنّما يحكيه بمفاهيم ذهنية تأثرت بأمور شتى خارجية وداخلية ، فالإنسان في مبصراته ومسموعاته أشبه بمن نظر إلى الأشياء بمنظار ملوّن ، فكما أنّه يرى ألوان الأشياء على غير ما هي عليه ، فهذه الظروف الزمانية والمكانية ، وما في داخل المدرك وخارجه من الخصوصيات كهذا المنظار ، تُري الأشياء على غير ما هي عليه ، ولكن لا تباينها ، بل تطابقها مطابقة نسبية فالإنسان عند هؤلاء أشبه بمن ابتلي بمرض اليرقان ، فكما أنّه يرى الأبيض والأسود صفراوين ، لأجل خصوصية في جهازه الإبصاري ، فهكذا الإنسان في كل ما يدرك ويقضي ، فإنّما يتوصل إلى الواقع بأجهزته التي يتأثر العلم الوارد إليها من الخارج بها ، ومع ذلك كله فليس ما يدركه خطأً محضاً ، ولا صدقاً محضاً ، بل هو صحيح في ظروف خاصة .
هذا إجمال ما يذهب إليه النسبيون من الفلاسفة ، غير أنه أصبح أساساً للمناهج الفلسفية الغربية منذ عصر ديكارت إلى زماننا هذا ، والإنسان المتتبع في كلماتهم ونظرياتهم يقف على أنهم لا يعتقدون بالقضايا الصادقة المطلقة الدائمة الكلية ، خصوصاً في فلسفة « جان لاك » ( ت ١٦٣٢ ـ م ١٧٠٤ ) وفلسفة « كانت » ( ت ١٧٢٤ ـ م ١٨٠٤ ) فهؤلاء ـ بإضفاء النسبية على القضايا ، وتأثر الإدراكات الإنسانية في جميع الموارد بالخصوصيات الداخلية والخارجية ـ أعادوا حديث السفسطة ولكن بثوب جديد ، وغطاء علمي خادع . ومن سبر دلائل السوفسطائيين في الفلسفة الإغريقية ، يقف على أن ما ذكره الغربيون وجهاً لنسبية العلوم ، هو نفس ما ذكر رئيس الشكاكين اليونانيين « بيرهون » في إثبات السفسطة وأن ما يدركه الإنسان من الخارج لا ينطبق عليه لأنّ الأجهزة الإدراكية تتأثر بالظروف الزمانية والمكانية والحالات النفسانية ، وبذلك لا يمكن أن نعتبر العلوم علماً حقيقياً كاشفاً عن الواقع .
ولو صدق حديث النسبية وأن الاجهزة
الادراكية لم تزل خاضعة لشرائط