الظاهرية ، فلذا يقوى ظهورها في المرضى والسكارى والنائمين والمُرْهَقين وتبقى مندثرة ومغمورة في طوايا النفس عندما تكون القُوى الظاهرية والحواس البشرية في حالة الفعالية والجدّ والسعي .
هذا ، وإنّ المعلوم من حالات الأنبياء عليهم السلام أنّ الوحي الإلهي كان ينزل عليهم في أقصى حالات تنَبُّههم واشتغالهم بالأُمور السياسية والدفاعية والتبليغية ، فكيف يكون ما تجلّى للنبي وهو يخوض غمار الحرب ، تجلياً للشخصية الباطنة ، والضمير المخفي ، أو ما شئت فعبّر ، ممّا لا يرى النور ، إلّا في حالات الغفلة والغيبوبة وما شابه ذلك ، كما يصرّح به هؤلاء ؟ .
وأين الأنبياء من الخمول والإنعزال عن المجتمع ، وهم أولو الجهاد ، والصبر والثبات في مواجهة الأعداء وتبليغ رسالاتهم السماوية ؟ .
فما ذكرناه دليل قاطع على بطلان تفسير الوحي بما ذكروه .
الجهة الثالثة : لا شكّ أنّ الشخصية الباطنة للإنسان لا تملك تلك المعلومات التي تفيضها في حالات تعطّل الحواس ، من ذاتها وصميمها من دون أن تتلقى شيئاً من خارجها . وإن دعوى ذلك ، باطلٌ ، لا قيمة له في سوق العلوم النفسية . فإنّ الذي توصّل إليه علماء النفس قبل « فرويد » وبعده ، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان تُحفظ فيها المعارف التي تردّها عبر القوى والشخصية الظاهرية ، وذلك عندما لا ترغب الشخصية الظاهرية في إبقائها في مجال نشاطها وتفكرها ، فتنسحب تلك الأفكار والمعارف إلى أعماق ضميره وشخصيته الباطنة ، فتكمن في زواياها ، وتختبيء بين طواياها ، مُتَحيِّنة فرصة تعطيل الشخصية الظاهرية ، حتى تنبعث من مكامنها ، وتجري على لسان صاحبها من دون إرادة منه ولا ميل ، كما عرفت في حالات التنويم المغناطيسي ، وكما يقع غالباً في حالات السهو والغفلة ، من تلفُّظ الإنسان بما لا يرغب ، أو يتحاشى إظهاره ممّا أضمره في نفسه ، ولا يُظهره قطعاً عند التفاته وانتباهه . وفي هذا المجال يقول علي عليه السلام : « ما أَضَمَرَ أَحَدٌ شيئاً إلَّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » (١) .
__________________
(١) نهج البلاغة باب قصار الحكم ، الحكمة ٢٦ .