فهؤلاء ثلاثةٌ من بُلغاء قريش وأَشرافهم وهم أبو سفيان بن حرب ، وأبو جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق ، خرجوا ليلة ليستمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يصلّي من الليل في بيته ، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر ، تفرّقوا ، فجمعهم الطريق فتلاقوا وقال بعضهم لبعض : « لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً » ، ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلُّ رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثلما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : « لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود » ، فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرّقوا (١) .
فلو كان القرآن كلاماً ، يشبه كلام الإنس ويوازنه ويعادله ، لم يكن هناك أي وازع لهؤلاء الصناديد الذين يعدّون في الطليعة والقمة من أعداء النبي ، أن يهجروا فرشهم ، ويُقلوا دفء دُثُرهم ، ويبيتوا في الظلام الحالك على التراب ، حتى يستمعوا إلى كلامه ومناجاته في أحشاء الليل في صلاته ونسكه ، وما هذا إلّا لأنّ القرآن كان كلاماً خلّاباً ، لعذوبة ألفاظه وبلاغة معانيه ، رائعاً في نظمه وأُسلوبه ، ولم يكن له نظير في أوساطهم ، ولا في كلمات بُلَغائهم وفُصَحائهم ، وهم الفُصحَاء والبُلغاء ومن يشار إليهم في تلك العُصور .
ومن الحبائل التي سلكوها لصدّ تأثير القرآن ، منع متشخصي المشركين من لقاء الرسول ، خصوصاً من كان لإسلامه تأثير خاص في إيمان قومه بدين الرسول .
ومن تلك الشخصيات الطفيل بن عمر الدوسي ، فقد قدم مكة ورسول الله
__________________
(١) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣١٥ .