جهابذة الأدب على أنّه فارس ميدان البيان ، وبطل حلبته ـ قوله في وصف الإنسان :
« أمْ هذا الذي أنشأه في ظُلُماتِ الأَرحام ، وشُغُف الأَستار ، نُطْفَةَ دهاقاً ، وعَلَقَةً مِحاقاً ، وجنيناً ، وراضعاً ، ووليداً ، ويافعاً . ثم منحه قلباً حافظاً ، ولساناً لافظاً ، وبصراً لاحظاً ، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً ، ويُقَصِّرَ مُزدجراً . حتى إذا قام اعتدالُه ، واستوى مثالُه ، نَفَرَ مُسْتكبراً ، وخَبَطَ سادِراً ، ماتحاً في غَرْبِ هواه ، كادحاً سعياً لدُنياه ، في لذات طَرَبِه ، وبَدَواتِ أَرَبِه » (١) .
فإنّ هذه القطعة من خطبه عليه السلام سبيكة مرصّعة بيواقيت الكلم ، ومعالي معاني الحكم ، معدودة من مدهشات كلامه ، وقد توفرت فيها جوامع وجوه الحسن . ومع ذلك ، فأين هي من الكلام الإلهي المعجز ، الذي إذا جعلته إلى جنب هذا الكلام ، ظهر بكل وضوح أنّه ليس من كلام البشر .
لاحظ قوله تعالى : ( وَاللَّـهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٢) .
أو قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ ، وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ، وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٣) .
هذا فيما يرجع إلى الدعامة الأولى لإعجاز القرآن . ويشير النبي الأعظم في كلمة له في تعريف القرآن إلى هذه الدعامة والدعامة التالية :
__________________
(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٨٣ .
(٢) سورة النحل : الآية ٧٨ .
(٣) سورة الحج : الآيتان ٥ و ٦ .