قال سبحانه : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ، قَالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ . قَالَ : إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (١) .
فقد جاء فيها أحد عشر قافاً ، لو نثرت هذه القافات في كلام أبسط من هذا ، لظهر عليه الثقل ، ولكنها جاءت في هذه الآية من غير أن تحدث قلقاً واضطراباً . وإنّما حصل هذا ، لكثرة الباءات واللامات في الآية ، فإنّ الباء مخرجها الشفة ، فهي أخفّ الحروف ، وتليها اللام في الخفة ، فإنّ مخرجها اللسان . وقد بلغت عدّة الباء أحد عشر ، واللام خمس عشر ، فأوجب كثرة دوران هذين الحرفين ، تلطيفاً في الثقل الذي توجبه القاف في كيان الآية .
ومثل ذلك ، قوله سبحانه : ( لَّقَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّـهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ . سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ، وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) (٢) .
فقد اجتمعت فيها عشر قافات ، وتكررت فيها اللام أحد عشر مرة ، فكسرت حدّة الثقل في القاف ، فترى ماءَ الحُسْن يترقرق على محياها ، والملاحة تقطر من جبينها .
هذه هي الدعامة الأولى للإعجاز ، وليست هي سبباً تامّاً له . ولأجل ذلك ربما يوجد في كلام البشر ما هو مشتمل على هذه الدعامة بصورة رفيعة ، مع أنّه ليس بكلام معجز ، لإمكان مقابلته والإتيان بمثله ، لمن تبحّر في تلك الصنعة ، ولأجل ذلك تعلو عليه سيماء الصنع البشري ، وما ذلك إلّا لأنّ الإعجاز البياني يبتني على الدعائم الأربع مجتمعة ، وليس ذاك الكلام مستجمعاً لها ليكون معجزاً فإنّه يفقد الأسلوب القرآني ، أعني الأسلوب الذي لا يشبه أُسلوب المحاورة ولا أسلوب الخطابة ولا الشعر ، كما سيوافيك شرحه . وإليك من ذلك نموذجاً :
إنّ من أفصح كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ـ الذي أصفقت
__________________
(١) سورة المائدة : الآية ٢٧ .
(٢) سورة آل عمران : الآية ١٨١ .