مع خمس كلمات أخرى ، فكان من ثمانيتها عقد نظيم يقطر ملاحة وحسناً .
وأيضاً ، من بدائع القرآن وغرائبه أنّه يكرر الحرف الثقيل في آية واحدة ، ولكنه يلطفه بحروف خفيفة بنحو يعلو مجموعه العذوبة والخفة ، مكان الثقل والخشونة ، ومن هذا النوع قوله سبحانه : ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (١) .
فقد جمعت هذه الآية ثمانية عشر ميماً ، منثورة بين كلماتها ، حتى كأنّ الآية مشكلة كلّها من ميمات ، كما ترى في « أمم ممن معك . . . وأمم سنمتعهم » ، ومع هذا فإنّك إذ ترتل الآية الكريمة على الوجه الذي يُرَتَّل به القرآن ، لا تحسّ أنّ هنا حرفاً ثقيلاً قد تكرر تكراراً غير مألوف ، بل تجد الآية قد توازنت كلماتها وتناغمت مقاطعها في أعدل صورة وأكملها فلا تنافر بين حرف وحرف ، ولا تباغض بين كلمة وكلمة .
ونظير هذا قوله سبحانه : ( قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ ، وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ ، وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ ، وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ ، إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) .
ففي الآية عشر ميمات ، قد جاءت في مطلعها ، ولكنها مع ذلك كأنّها ميم واحدة ، ولو أنّ حرفاً آخر دخل في نظم الآية لما انبعث منها هذا الصوت القوي المجلجل ، الذي يقتضيه المقام هنا ، ولتفككت أوصال النظم وتخاذلت قواه .
وهكذا ، إنّ القاف من أثقل الحروف نطقاً ، تستنفر طاقة الحلق واللسان ليشتركا في حملها وإخراجها مخرج الأصوات . ومع هذا الثقل ، فقد جاءت في بعض الآيات مكررة بصورة مأنوسة لا يلتفت قارئها إلى التكرار ، ولا يجد فيها الجهد والعناء .
__________________
(١) سورة هود : الآية ٤٨ . والميم المشدّدة عند القراءة تحسب اثنين .
(٢) سورة آل عمران : الآية ٢٦ .