وعذوبة تركيب أحرفها ، وكونها مجانبة للوحشي الغريب ، وبعدها عن الركيك المسترذل ، مضافاً إلى سلاسة صيغها .
فإنّه سبحانه قال : ( الْجَوَارِ ) ، ولم يقل : « الفُلْك » ، لما في الجَرْي من الإشارة إلى باهر القُدرة حيث أجراها بالريح ، وهي أرق الأشياء وألطفها ، فحرّك ما هو أثقل الأمور ، وأعظمها في الجرم . ( والفُلْك ، وإن كان مثل الجوار في العذوبة ، لكنه يفقد النكتة التي يشملها الآخر ) .
وقال سبحانه : ( فِي الْبَحْرِ ) ، ولم يقل : « في الطمطام » . ولا : « في العُباب » . والكل من أسماء البحر ، لأنّ البحر أسهل وأسلس ، وبالتالي أعذب وأجمل .
وقال سبحانه : ( كَالْأَعْلَامِ ) ، ولم يقل : « كالروابي » ، ولا : « كالآكام » ، إيثاراً للأخف الملتذ به ، وعدولاً عن الوحشي المشترك (١) .
من عجائب القرآن أنّه يعمد إلى ألفاظ ذات تركيب يغلب عليه الثقل والخشونة ، فيجمعها في معرض واحد ، ثم ينظم منها آياته ، فإذا هي وضيئة مشرقة ، متعانقة متناسقة . ومن نماذج ذلك ، قوله سبحانه :
( قَالُوا تَاللَّـهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) (٢) .
إسمعها ، هل تجد نَبْرَةً تخدش أذنك ؟ . واقرأها ، فهل تجد لفظاً يتعسر على شفتيك ، أو يضطرب في لسانك ، فيا لها من سلاسة وعذوبة واتّساق ، مع أنّ فيها كلمات ثقيلة بمفردها ثقلاً واضحاً في الأذن وعلى اللسان ، أعني قوله : « تالله . . . تفتؤا . . . حَرَضاً » . ولكنها حين اجتمعت في نظم قرآني ، خفّ ثقيلها ، ولان يابسها . وسلس جامحها ، وانقاد وذلّ نافرها ، فإذا هي عرائس مجلوة ، تختال في روض نضير . فهذه ثلاث كلمات من أثقل الكلام ، قد انتظمت
__________________
(١) الطراز ، ج ٣ ، ص ٢١٥ .
(٢) سورة يوسف : الآية ٨٥ .