الإتيان بكلام فصيح غايتها ، وبليغ نهايتها ، منضماً إلى روعة النظم ، في هذا الأسلوب الخاص المعهود من القرآن ، أمر معجز . ولذلك لم تجد طيلة هذه القرون حتى يومنا هذا كلام يناضل القرآن في آياته وسوره .
ونضيف ، أنّه ليس هنا مقياس ملموس كالأوزان الشعرية لتبيين حقيقة أسلوب القرآن ، وإنّما هو أمر وجداني يدركه كل من له إلمام بالعربية .
ولأجل تقريب المطلب نذكر آية ، ثم نذكر مضمونها بعبارة أخرى ، فترى أنّ العبارة الثانية بشرية ، والأولى قرآنية .
قال سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ) (١) .
هذا هو الكلام الإلهي .
فلو أراد إنسان أن يصب هذا المعنى بصورة أُخرى ، يتغير الأُسلوب ، مهما بلغ في الفصاحة والبلاغة من العظمة ، فيقال مثلاً :
« ومن أعظم علاماته الباهرة ، جري السُفُن على الماء ، كالأبنية العظيمة ، إن يرد هبوب الريح تجري بها ، وإن يرد سكون الريح فتركد على ظهره ، أو يرد إهلاكها بالإغراق بالماء فيهلكهم بسيئات أعمالهم . وفي ذلك آيات للمؤمنين » .
فانظر الفرق بين الأُسلوبين ، والإختلاف في السبكين ، مضافاً إلى افتقاد الثانية بعض النكات الموجودة في الآية .
* * *
إلى هنا تمّ الكلام حول الدعائم الأربع التي بني عليها صرح الإعجاز ، وشيدت أركانه . غير أنّه بقي هنا أمور لا غنى عن الإشارة إليها والتنبيه عليها ، لأنّها تقع في طريق تكميل مباحث إعجاز القرآن البياني ، وفيما يلي بيانها .
* * *
__________________
(١) سورة الشورى : الآيات ٣٢ ـ ٣٤ .