وقال عليه السلام في خطبة له عند ذكر أهل القبور : « وكأن صرتم إلى ما صاروا إليه ، وارتهنكم ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور ، وبعثرت القبور : ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ، وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) » (١) .
وأخيراً ، يجب التنبيه على أنّ الأسلوب وحده لا يكفي لجعل الكلام فوق كلام البشر ، ما لم ينضم إليه الدعائم الثلاث الأخر ، خصوصاً سمو المعاني وعلو المضامين ، فإن له القسط الأكبر في جعل الأسلوب ممتازاً ، تمتدّ إليه الأعناق ، وإلّا فمحاكاة الأسلوبَ القرآني ملموس في كلام المدّعين للمعارضة مثل مسيلمة وغيره ، كما سيوافيك ، ولكنه يفقد المضمون الصحيح ، والمعنى المتزن ، وقد عرفت أن إعجاز القرآن بمعنى كونه خلاباً للعقول ، ومبهراً للنفوس رهن أمور أربعة توجب حصول تلك الحالات للإنسان فلا يجد في نفسه أمام القرآن إلّا السكوت والسكون .
وهناك من خفي عليه دور الأسلوب في رفع شأن القرآن ، وزَعَم أنّ إعجاز القرآن ينحصر في الدعائم الثلاثة الأُول قال : « إنّ الأُسلوب لا يمنع من الإتيان بأسلوب مثله ، لأنّ الإتيان بأسلوب يماثله ، سهل ويسير على كل واحد ، بشهادة أن ما يحكى عن مسيلمة الكذاب من قوله : « إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلّ لربِّك وجاهر » ، يشبه أسلوب القرآن » (٢) .
ولكنه غفل عن أنّ الأسلوب أحد الدعائم لا الدعامة المنحصرة ، حتى أنّ ما ادعاه من أن إعجاز القرآن لأجل الفصاحة ، والبلاغة ، وجودة النظم وحسن السياق ، ليست دعائم كافية لإثبات الإعجاز ، إذ في وسع البشر صياغة كلام في غاية الفصاحة والبلاغة مع حسن السياق وجودته ، ومع ذلك لا يكون معجزاً لإمكان منافحته ومقابلته والإتيان بمثله ، فيلزم على ذلك عدم كون القرآن من تلك الجهة معجزاً . والذي يقلع الإشكال أنّ الإعجاز رهن هذه القيود الأربعة ، وأنّ
__________________
(١) المصدر السابق ، ص ١٦٤ .
(٢) الطراز ، ص ٣٩٦ .