ويعظان الناس بأفصح العبارات وأبلغها ، ثم يستشهدان في ثنايا كلامهما بآي من الذكر الحكيم ، فعندها يُلمس البون الشاسع بين الأسلوبين ، من دون مداخلة شك وريب .
خطَب النبي الأكرم يوم فتح مكة في المسجد الحرام ، فقال : يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء . الناس من آدم وآدم خلق من تراب ؛ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) » (١) .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام ، في خطبته المعروفة بالشقشقية : « فما راعني إلّا والناس كعُرْف الضبع إليَّ ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وُطىء الحسنان ، وشُقّ عِطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم . فلما نهضت بالأمر ، نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) » .
وقال عليه السلام في كلام له لأصحابه في بعض أيام صفين : « وطيبوا عن أنفسكم نفساً ، وامشوا إلى الموت مشيا سُجحاً ، وعليكم بهذا السواد الأعظم ، والرِّواق المُطَنَّب ، فاضربوا ثَبَجَه ، فإنّ الشيطان كامن في كِسْرِه ، قد قدّم للوثبة يداً ، وأخر للنكوص رِجلاً ، فصَمْداً صمدا ، حتى ينجلي لكم عمود الحق ؛ ( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ ، وَاللَّـهُ مَعَكُمْ ، وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) (٢) .
وقال عليه السلام في خطبة له عند ذكر المشبهة : « لم يعقد غَيْبَ ضَميرِهِ على معرفَتِك ، ولم يُباشِر قَلْبَهُ اليقينُ بأنّه لا نِدَّ لك ، وكأنّه لم يسمع تَبَرُّؤَ التابعين من المتبوعين ، إذ يقولون : ( تَاللَّـهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٣) .
__________________
(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ، ج ٣ ، ص ٢٧٣ . تاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ١٢٠ .
(٢) نهج البلاغة ، بتعليق محمد عبده ، ص ١١٥ .
(٣) نهج البلاغة ، بتعليق محمد عبده ، ص ١٦٤ .