إستحال أن يعلموا أنّ لنظم القرآن فضلاً على كلامهم الذي يسمع منهم . وإذا لم يتصوروا للقرآن تلك المزية ، كان كلامُهم بعد التحدّي عندهم مساوياً للقرآن . فلازم ذلك أن يعتقدوا أنّ في جمله ما يقولونه في الوقت ويقدرون عليه ، ما يشبه القرآن ويوازيه ، فعندئذٍ لا تتم الحُجَّة عليهم ، إذْ لهم أن يقولوا بأنّ أشعارنا وخطبنا لا تقصر عن قرآنك ، لأنّ المفروض أنّهم غير واقفين على نزول كلامهم عن الذروة والقمة السالفة ، ومتصورين أنّه بعد التحدي كما كان قبله . ومن كانت له هذه الحالة ، لا يتصور للقرآن مزية .
وعاشراً : فإنّ القائل بدخول النقصان على قرائح العرب ، إمّا أن يستثني النبي من ذلك ، أوْ لا . فعلى الأَوّل يجب أن يقول بأنّ النبيّ عندما كان يتلو عليهم قوله تعالى : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ ، عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (١) كان يستطيع أن يأتي بمثل القرآن ، ويقَدَر عليه .
وعلى الثاني يلزم أنّ النبوة صارت وسيلة لنقصان مرتبة النبي في حلبة الفصاحة والبلاغة ، اللهم إلّا أن يقولوا بأنّ النبي كان دونهم في الفصاحة والبلاغة قبل التحدي ، مع أنّ الأخبار تحكي عن أنّه كان أفصح العرب (٢) .
ولأجل وَهْن هذه النظرية ، صار السائد بين المسلمين عامّة ، وأكابر الشيعة خاصة ، كون القرآن معجزاً من حيث الفصاحة المفرطة والبلاغة السامية ، والنَّظم المخصوص ، والأسلوب البديع ، الذي جعله ـ مجتمعاً ـ كلاماً خارقاً للعادة . وزيادة في إيضاح الحال نورد ما ذكره الشيخ الطبرسي ( ت ٤٧١ ـ م ٥٤٨ ) في تفسير قوله سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (٣) ، قال :
__________________
(١) سورة الإسراء : الآية ٨٨ .
(٢) الإشكالات الثلاثة الأخيرة ، ذكرها الرماني في كتابه « النكت في إعجاز القرآن » ، ص ١٣٣ ـ ١٥٥ ، وقد نقلناها بتلخيص وتصرّف .
(٣) سورة الإسراء : الآية ٨٨ .