البرهنة ، فقد اعتمد في الوجه الأول ، على تصريح القرآن بعموم رسالته ؛ وفي الوجه الثاني ، على نداءاته العامة ؛ وفي الوجه الثالث ، على أنّ الموضوع لأحكامه وتشريعاته ، أمرٌ عام ، وفي الوجه الرابع ، على أنّ القرآن يعرّف هدايته وإنذاره ، أمراً عاماً للناس كلّهم .
وهناك وجه خامس يتصل إتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام وقوانينه وتشريعاته ، وهو أنّ القرآن في تشريعاته لا يعتمد إلّا على مقتضى الفطرة التي فطر عليها بنو البشر كلُّهم ، فإذا كان الحكم موضوعاً على طِبْق الفطرة الإنسانية ، الموجودة في جميع الأفراد ، فلا وجه لاختصاصه بإقليم دون إقليم ، أو شعب دون شعب .
هذا هو الإسلام ، وتعاليمه القيمة ومعارفه وسننه ، فهل تجد فيها ما يشير إلى كونه ديناً إقليمياً ، أو شريعة لفئةٍ محدودةٍ ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات ، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على ظروف بيئته وخصوصيات منطقته ، بحيث لو فرض فقدانها ، لأصبحت السنن والطقوس التي يعتمد عليها الدين ، سراباً يحسبه الظمآن ماءً .
ونحن في غنىً عن سرد آيات الذكر الحكيم التي تتبنى معارف وتشريعات تقتضي بطبيعتها كونها دواءً للمجتمع الإنساني في جميع الأقطار والأزمان ، فقوله سبحانه : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) الآية (١) ؛ وقوله : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ، وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (٢) ، وقوله : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٣) ، وغير ذلك من تشريعاته في حقول الإقتصاد والإجتماع والسياسة والأخلاق ، مما تقتضي بطبيعتها ، العمومية لجميع البشر والمجتمعات .
__________________
(١) سورة النحل : الآية ٩٠ .
(٢) سورة النساء : الآية ٥٨ .
(٣) سورة المائدة : الآية ٩٠ .