الجهة الأولى لم يجرؤا على إنكار ما هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية ـ كالمعاجز ـ لأنّهم مسلمون ، ومن الجهة الثانية لم يتجرؤا على التصريح بوجود الملائكة والجن ، وبخرق المعاجز للسنن الطبيعية والأسباب المادية ، تحرزاً من رمي الماديين إيّاهم بالخرافة ، والإيمان بما لا تؤيّده التجربة ولا يثبته الحسّ .
ولأجل ذلك سلكوا طريقاً وسطاً ، وهو تأويل بعض ما جاء في مجال الغيب ، خصوصاً المعاجز والكرامات ، حتى يستريحوا بذلك من هجمة الماديين ، ويرضوا به طائفة المتدينين .
وممّن سلك هذا الطريق الشيخ محمد عبده (١) في مناره ، والطنطاوي (٢) في جواهره ، وتلامذة منهجهما . فمن وقف على كلا التفسيرين في المواضع التي يُحدّث القرآن فيها عن معاجز الأنبياء وخوارق العادات ، يقف على أنّ الرجلين يسعيان بكل حول وقوة إلى تصوير الحوادث الإعجازية ، وكأنّها جارية على المجاري الطبيعية ، غيرُ مخالفةٍ أصول الحسّ والتجربة (٣) .
بل ربما نرى أنّ بعض مُقْتَفي منهجهما ينكرون أنْ يكون للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله معجزة غير القرآن الكريم ، وقد تبعوا في نفي معاجزه ، قساوسة النصارى الذين يحاولون إنكار معاجز النبي الكريم ليتسنى لهم بذلك تفضيل سيدنا المسيح عليه السلام عليه أولاً ، وإنكار نبوته لكونه فاقداً للمعاجز ، ثانياً (٤) .
__________________
(١) توفي سنة ١٣٢٣ هـ ق .
(٢) توفي سنة ١٣٥٨ هـ ق .
(٣) لاحظ مثلاً ما جاء في المنار ، ج ١ ، ص ٣٢٢ ، تفسير قوله تعالى : ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( سورة البقرة : الآية ٥٦ ) .
وفيه أيضاً ، ج ١ ، ص ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ، تفسير قوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) . ( سورة البقرة : الآية ٦٥ ) .
وفيه أيضاً ، ج ١ ، ص ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، تفسير قوله تعالى : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّـهُ الْمَوْتَىٰ . . . . ) ( سورة البقرة : الآية ٧٣ ) .
وغير ذلك من الموارد .
(٤) راجع للوقوف على كلمات القساوسة في هذا المجال ، كتاب « أنيس الأعلام » ، ج ٥ ، ص ٣٥١ .