أمرا قبيحا منكرا من الافتراء وهو الكذب (يا أُخْتَ هارُونَ) ان هارون هذا كان رجلا صالحا في بني اسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح عن ابن عباس وقتادة وكعب وابن زيد ، والمغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي (ص) وقيل : انه لما مات شيع جنازته أربعون الفا كلهم يسمى هارون ، فقولهم : (يا أُخْتَ هارُونَ) معناه : يا شبيهة هارون في الصلاح ما كان هذا معروفا منك (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي كان أبواك صالحين فمن أين جئت بهذا الولد (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أي فأومت إلى عيسى (ع) بأن كلموه واستشهدوه على براءة ساحتي ، فتعجّبوا من ذلك ثم (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) معناه : كيف نكلم صبيا في المهد؟ (قالَ) عيسى (ع) (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) قدّم اقراره بالعبودية ليبطل به قول من يدعي له الربوبية ، وكأن الله سبحانه انطقه بذلك لعلمه بما يقوله الغالون فيه ، ثم قال (آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ان الله تعالى أكمل عقله في صغره ، وأرسله إلى عباده ، وكان نبيا مبعوثا إلى الناس في ذلك الوقت مكلفا عاقلا ولذلك كانت له تلك المعجزة.
٣١ ـ ٣٥ ـ ثم بيّن سبحانه تمام كلام عيسى (ع) فقال (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) أي وجعلني معلما للخير والبركة : نماء الخير ، والمبارك : الذي ينتمي الخير به (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي بإقامة الصلاة ، وأداء الزكاة (ما دُمْتُ) أي ما بقيت (حَيًّا) مكلفا (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) أي وجعلني بارا بها ، أؤدي شكرها فيما قاسته بسببي (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) أي متجبرا (شَقِيًّا) والمعنى : اني بلطفه وتوفيقه كنت محسنا إلى والدتي ، متواضعا في نفسي ، حتى لم أكن من الجبابرة الأشقياء (وَالسَّلامُ عَلَيَ) أي والسلامة عليّ من الله (يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) أي في هذه الأحوال الثلاث وقد مرّ تفسيرها قبل في قصة يحيى وفي هذه الآيات دلالة على انه يجوز ان يصف الإنسان نفسه بصفات المدح اذا أراد تعريفها إلى غيره لا على وجه الافتخار ؛ قالوا : ولما كلمهم عيسى (ع) بهذا علموا براءة مريم (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) معناه : ذلك الذي قال : إني عبد الله عيسى ابن مريم لا ما يقوله النصارى من انه ابن الله ، وأنه إله (قَوْلَ الْحَقِ) معناه : أحق الحق (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يشكون ، يعني اليهود والنصارى ، فزعمت اليهود انه ساحر كذاب ، وزعمت النصارى انه ابن الله وثالث ثلاثة (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) معناه : ما كان ينبغي لله ان يتخذ من ولد ، أي ما يصلح له ولا يستقيم ثم نزّه سبحانه نفسه عن ذلك فقال (سُبْحانَهُ) ثم بيّن السبب في كون عيسى من غير اب فقال (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقد مرّ تفسيره فيما مضى والمعنى : انه لا يتعذر عليه إيجاد شيء على الوجه الذي أراده.
٣٦ ـ ٤٠ ـ (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) المعنى : وقضى أن الله ربي وربكم (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) معناه : هذا طريق واضح فالزموه (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الإختلاف في المذهب : ان يعتقد كل قوم خلاف ما يعتقده الآخرون ، والأحزاب : جمع حزب ، وهو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره ، وتحزبوا : أي صاروا احزابا ، والمعنى : ان الأحزاب من أهل الكتاب اختلفوا في عيسى (ع) فقال قوم منهم : هو الله وهم اليعقوبية ، وقال آخرون. هو ابن الله وهم النسطورية ، وقال آخرون : هو ثالث ثلاثة وهم الاسرائيلية ، وقال المسلمون : هو عبد الله ، عن قتادة ومجاهد ، وإنما قال : من بينهم لأن منهم من ثبت على الحق (فَوَيْلٌ) أي فشدة عذاب ، وهي كلمة وعيد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بالله بقولهم في المسيح (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) المشهد بمعنى الشهود والحضور ، أي من حضورهم ذلك اليوم وهو يوم القيامة ، وسمي عظيما لعظم اهواله (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا)