وعبّر الخبر عمّن شهد قتال التوابين والشاميّين في اليوم الثاني : الخميس قال : فغدوا علينا وغاديناهم فقاتلناهم. ولعلّه يعني أنّ الشاميّين بدؤوهم ، ويقول : قتالا لم ير الشيب والمرد مثله قط ، يومنا كلّه. وإنّما حجزت الصلاة (للظهر والعصر) بيننا وبين القتال ، حتّى أمسينا ، فتحاجزنا ؛ وقد أكثروا فينا الجراح ، وأفشيناها فيهم. وفي أوّل النهار في هذا اليوم الثاني من القتال جرح أبو الجويرية العبدي (البصري) فلزم رحله ، وكان يحثّ الناس على القتال.
ومثله في عمله كان صخير بن حذيفة المرّي ، ففي مساء اليوم الثاني الخميس ليلة الجمعة كان يدور الليل كلّه في التوابين ويقول لهم : عباد الله أبشروا بكرامة الله ورضوانه ، فو الله إنّه لحقّ لمن ليس بينه وبين الراحة من إبرام الدنيا وأذاها ودخول الجنة ولقاء الأحبة إلّا فراق هذه النفس الأمّارة بالسوء ، حقّ له أن يكون سخيّا بفراق نفسه ومسرورا بلقاء ربّه!
وفي اليوم الثالث يوم الجمعة أيضا يظهر أنّ الحصين السكوني هو الذي بدأ فخرج إليهم في عشرة آلاف ، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى ارتفاع الضّحى ، ثمّ تكاثر أهل الشام على العراقيين وتعطّفوا عليهم من كلّ جانب.
فلمّا رأى سليمان ذلك نزل ونادى : من أراد «التوبة» من ذنبه و «الوفاء» بعهده والبكور إلى ربّه فإليّ يا عباد الله! فنزل معه ناس كثير ، فكسر جفن سيفه فكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه فقاتلوهم ، ونزل سائر الرجال يشتدّون مصلّتين سيوفهم وقد كسروا جفونها ، فقاتلوهم فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة ، وأكثروا الجراح فيهم.
فلمّا رأى الحصين ذلك أمر رماته يرمونهم بنبالهم ، وفيهم يزيد بن الحصين السكوني رمى سليمان بسهم ـ وهو في التسعين من عمره ـ فوقع.
فأخذ الراية المسيّب الفزاري وقال له : رحمك الله يا أخي! فقد صدقت و «وفيت» بما عليك ، وبقي ما علينا. ثمّ شدّ بالراية فقاتل ساعة ثمّ رجع ، ثمّ شدّ بها فقاتل ثمّ رجع ، وهكذا حتّى قتل رحمهالله.