فلمّا أتياه وقالا له ما أمرا به (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) خاطب موسى وهارون أوّلا ، وخصّ موسى بالنداء ثانيا ، لأنّه الأصل وهارون وزيره وتابعه. ويحتمل أن يحمله خبثه على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه ، لما عرف من فصاحة هارون ورتّة لسان موسى. ويدلّ عليه قوله : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (١).
والمعنى : من أيّ جنس من الأجناس ربّكما حتّى أفهمه وأعرفه؟ فبيّن موسى أنّ الله تعالى ليس له جنس ، وإنّما يعرف سبحانه بأفعاله.
(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) من الأنواع (خَلْقَهُ) صورته وشكله الّذي يطابق المنفعة المنوطة به وكماله الممكن له ، كما أعطى العين الهيئة الّتي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الّذي يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان ، كلّ واحد منها مطابق لما علّق به من المنفعة. أو أعطى خليقته كلّ شيء يحتاجون إليه وينتفعون به. وقدّم المفعول الثاني لأنّه المقصود بيانه.
وقيل : أعطى كلّ حيوان نظيره في الخلق والصورة زوجا ، كالناقة والبعير والرجل والمرأة وغير ذلك ، ولم يزاوج منها شيئا غير جنسه.
(ثُمَّ هَدى) ثمّ عرّفه كيف يرتفق بما أعطي؟ وكيف يتوصّل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا؟ ولله درّ هذا الجواب ما أخصره! وما أجمعه! وما أبينه! فإنّه مع نهاية وجازته وغاية اختصاره معرب عن الموجودات بأسرها على مراتبها ، ودالّ على أنّ الغنيّ القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو الله تعالى ، وأنّ جميع ما عداه مفتقر إليه ، منعم عليه في حدّ ذاته وصفاته وأفعاله ، ولذلك بهت فرعون ، وأفحم عن الدخل عليه ، فلم ير إلّا صرف الكلام عنه إلى غيره.
(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) سأله عن حال من تقدّم وخلا من القرون الماضية ، كقوم نوح وعاد وثمود ، ونظائرهم الّذين لا يعبدون الله ، وعن شقاء من شقي منهم ، وسعادة من سعد. والمعنى : فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة؟
__________________
(١) الزخرف : ٥٢.