حيث لم يقل : وزلّ آدم وأخطأ ، وما أشبه ذلك ممّا يعبّر به عن الزلّات الّتي هي ارتكاب ما هو تركه أولى وأصوب ـ لطف بالمكلّفين ، وزجر بليغ ، وموعظة كافّة. وكأنّه قيل لهم : انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبيّ المعصوم حبيب الله عزوجل وصفيّه ، الّذي لا يجوز عليه اقتراف الكبيرة والصغيرة ، وزجرته عن ترك الأولى بهذه الغلطة وبهذا اللفظ الشنيع؟! فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيّئات والصغائر ، فضلا عن التجسّر على التورّط في الكبائر.
(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) اصطفاه وقرّبه إليه بالتوبة عمّا صدر منه من ترك الندب. من : جبى إليّ كذا فاجتبيته ، مثل : جليت عليّ العروس فاجتليتها. وأصل الكلمة الجمع.
يقال : اجتبت الفرس نفسها ، إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار. (فَتابَ عَلَيْهِ) رجع إليه ، وقبل توبته لمّا تاب (وَهَدى) إلى الثبات على التوبة ، ووفّقه لحفظها ، والتشبّث بأسباب التقوى. وقيل : هداه إلى الكلمات الّتي تلقّاها منه.
(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) الخطاب لآدم وحوّاء ، أو له ولإبليس. ولمّا كان آدم وحوّاء أصلي البشر ، والسّببين اللّذين منهما نشؤا وتفرّعوا ، جعلا كأنّهما البشر في أنفسهما ، فخوطبا مخاطبتهم ، فقيل : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) لأمر المعاش ، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب. أو لاختلال حال كلّ من النوعين بواسطة الآخر. أو الخطاب لآدم وحوّاء وإبليس. ويؤيّد الأوّل قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) كتاب ورسول (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُ) في الدنيا عن طريق الدين (وَلا يَشْقى) في الآخرة عن الثواب الدائم.
عن ابن عبّاس : ضمن الله لمن اتّبع القرآن أن لا يضلّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثمّ تلا قوله : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى).
والمعنى : أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضلّ في الدنيا عن طريق الدين ، فمن اتّبع كتاب الله عزوجل ، وامتثل أوامره ، وانتهى عن نواهيه ، نجا من الضلال ومن عقابه.