ولمّا وصف عبادة العباد ، وعدّد صالحاتهم وحسناتهم ، أثنى عليهم من أجلها ، ووعدهم الترفّع من درجاتهم في الجنّة والخلود فيها ، فقال : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أعلى مواضع الجنّة. وهي اسم جنس أريد به الجمع ، كقوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (١). وقيل : هي من أسماء الجنّة. (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على المشاقّ من مضض (٢) الطاعات ، ورفض الشهوات ، وتحمّل المجاهدات ، من أذى الكفّار ، ومقاساة الفقر ، وسائر مشاقّ الدين. وإطلاقه لأجل الشياع في كلّ مصبور عليه.
(وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) دعاء بالتعمير وبالسلامة ، أي : يحيّيهم الملائكة ويسلّمون عليهم. أو يحيّي بعضهم بعضا ويسلّم. أو يعطون التبقية والتخليد مع السلامة عن كلّ آفة. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : ويلقون ، من : لقي.
(خالِدِينَ فِيها) لا يموتون فيها ولا يخرجون (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) موضع استقرار وموضع إقامة. وهذا مقابل (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا) معنى ، ومثله إعرابا.
(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) ما يصنع بكم. من : عبأت الجيش إذا هيّأته. أو لا يعتدّ بكم. (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) لو لا عبادتكم ، فإنّ شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة ، وإلّا فهو وسائر الحيوانات سواء. وقيل : معناه : ما يصنع بعذابكم لو لا دعاؤكم معه آلهة.
و «ما» إن جعلت استفهاميّة فمحلّها النصب على المصدر. كأنّه قيل : أيّ عبء يعبأ بكم لو لا دعاؤكم؟ يعني : أنّكم لا تستأهلون شيئا من العبء بكم لو لا عبادتكم. وفيه دلالة على أنّ من لا يعبد الله ولا يطيعه فلا وزن له عند الله.
وقيل : معناه : لو لا دعاؤكم له إذا مسّكم ضرّ أو أصابكم سوء ، رغبة إليه وخضوعا له.
__________________
(١) سبأ : ٣٧.
(٢) المضض : الألم والوجع.