أي : فلم تعط ما يعدّ نائلا ، وإلّا يتكاذب البيت ، يعني بالتكاذب أنه قد قال : «فلم تبخل» فيتضمّن أنه أعطى شيئا ، فقوله بعد ذلك : «ولم تعط نائلا» لو لم يقدّر نائلا يعتدّ به ، تكاذب ، وفيه نظر ؛ فإن قوله «لم تبخل ولم تعط» لم يتواردا على محلّ واحد ؛ حتّى يتكاذبا ، فلا يلزم من عدم التقدير الذي قدّره ابن عطية كذب البيت ، وبهذا الذي ذكرته يتعيّن فساد قول من زعم أنّ هذا البيت ممّا تنازع فيه ثلاثة عوامل : سئلت وتبخل وتعط ، وذلك لأن قوله : «ولم تبخل» على قول هذا القائل متسلّط على طائل ، فكأنه قيل : فلم تبخل بطائل ، وإذا لم يبخل به ، فقد بذله وأعطاه ، فيناقضه قوله بعد ذلك «ولم تعط نائلا».
وقد أفسد ابن الخطيب (١) جواب ابن عطيّة فقال : «أجاب الجمهور ب «إن لم تبلّغ واحدا منها ، كنت كمن لم يبلّغ شيئا» ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ من ترك البعض وأتى بالبعض ، فإن قيل : إنه ترك الكلّ ، كان كذبا ، ولو قيل : إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل ، فهذا هو المحال الممتنع ؛ فسقط هذا الجواب ، والأصحّ عندي : أن يقال : خرج هذا الجواب على قانون قوله : [الرجز]
٢٠٠٨ ـ أنا أبو النّجم وشعري شعري (٢)
ومعناه : أنّ شعري قد بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة إلى حيث متى قيل : إنه شعري ، فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يزاد عليها ، وهذا الكلام يفيد المبالغة التامّة من هذا الوجه ، فكذا هنا ، كأنه قال : فإن لم تبلّغ رسالاته ، فما بلّغت رسالاته ، يعني : أنه لا يمكن أن يوصف ترك التبليغ بتهديد أعظم من أنه ترك التبليغ ، فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد».
قال أبو حيان (٣) : «وما ضعّف به جواب الجمهور لا يضعّف به ؛ لأنه قال : «فإن قيل : إنه ترك الكلّ ، كان كذبا» ، ولم يقولوا ذلك ، إنما قالوا : إنّ بعضها ليس أولى بالأداء من بعض ، فإن لم تؤدّ بعضها ، فكأنّك أغفلت أداءها جميعها ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلّها ؛ لإدلاء كلّ منها بما يدلي به غيرها ، وكونها كذلك في حكم شيء واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلّغا غير مبلّغ ، مؤمنا به غير مؤمن به ؛ فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتدّ به» ، قال شهاب الدين (٤) : وهذا الكلام الأنيق ، أعني : ما وقع به الجواب عن اعتراض الرّازيّ كلام الزمخشري أخذه ونقله إلى هنا ، وتمام كلام الزمخشريّ : أن قال بعد قوله : «غير مؤمن» ، وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «إن كتمت آية لم تبلّغ رسالاتي» (٥) ، وروي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «بعثني الله برسالاته ، فضقت بها ذرعا ، فأوحى الله إليّ : إن لم تبلّغ رسالاتي ، عذّبتك وضمن لي
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٢ / ٤٨.
(٢) تقدم ٩٩٦.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٩.
(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٧١.
(٥) ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ١٥٧) عن ابن عباس.