العصمة ؛ فقويت» (١) ، قال أبو حيّان (٢) : «وأما ما ذكر من أن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكلّ محال ممتنع ، فلا استحالة فيه ؛ لأن لله تعالى أن يرتّب على الذنب اليسير العقاب العظيم ، وبالعكس ، ثم مثّل بالسارق الآخذ خفية يقطع ويردّ ما أخذ ، وبالغاصب يؤخذ منه ما أخذ دون قطع».
وقال الواحديّ : أي : إن يترك إبلاغ البعض ، كان كمن لم يبلّغ ؛ لأنّ تركه البعض محبط لإبلاغ ما بلّغ ، وجرمه في كتمان البعض كجرمه في كتمان الكلّ ؛ في أنه يستحقّ العقوبة من ربّه ، وحاشا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يكتم شيئا ممّا أوحى الله تعالى إليه ، وقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «من زعم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم كتم شيئا من الوحي ، فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ (٣) بَلِّغْ) ، ولو كتم رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا من الوحي ، لكتم قوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) [الأحزاب : ٣٧] الآية» ، وهذا قريب من الأجوبة المتقدّمة ؛ ونظير هذه الآية في السؤال المتقدّم الحديث الصحيح عن عمر بن الخطّاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ : «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» : فإنّ نفس الجواب هو نفس الشرط ، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقدير تحصل به المغايرة ، فقالوا : «تقديره : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيّة وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا ، ويمكن أن يأتي فيه جواب الرّازيّ الذي اختاره.
وقرأ (٣) نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر : «رسالاته» جمعا ، والباقون : «رسالته» بالتوحيد ، ووجه الجمع : أنه عليهالسلام بعث بأنواع شتّى من الرسالة ؛ كأصول التوحيد ، والأحكام على اختلاف أنواعها ، والإفراد واضح ؛ لأنّ اسم الجنس المضاف يعمّ جميع ذلك ، وقد قال بعض الرسل : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) [الأعراف : ٦٢] ، وبعضهم قال : (رِسالَةَ رَبِّي) [الأعراف : ٧٩] ؛ اعتبارا للمعنيين.
قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي : يحفظك ، ويمنعك من النّاس.
روي أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها ، فأتاه أعرابيّ ـ وهو نائم ـ ، فأخذ سيفه واخترطه ، وقال : يا محمّد من يمنعك منّي؟ فقال : «الله» فرعدت يد الأعرابيّ ، وسقط من يده ، وضرب برأسه الشّجرة حتى انتثر دماغه (٤) ، فأنزل الله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
__________________
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٨) وعزاه لأبي الشيخ عن الحسن مرسلا.
(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٩.
(٣) ينظر : السبعة ٢٤٦ ، والحجة ٣ / ٢٣٩ ، وحجة القراءات ٢٣٢ ، والعنوان ٨٨ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٣ ، وشرح شعلة ٣٥٣ ، وإتحاف ١ / ٥٤٠.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٤٨) عن محمد بن كعب القرظي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٣٠) وعزاه للطبري وحده.