ينتظم الجزأين في عمله ، كما تنتظمها «إنّ» في عملها ، فلو رفعت «الصّابئون» المنويّ به التأخير بالابتداء ، وقد رفعت الخبر ب «إنّ» ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين» ، وهو واضح فيما ردّ به ، إلّا أنه يفهم كلامه أنه يجيز ذلك بعد استكمال الخبر ، وقد تقدّم أنّ بعضهم نقل الاجماع على جوازه.
وضعّف ابن الخطيب (١) ما قاله الزّمخشريّ ، قال : هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه :
الأوّل : أنّ هذه الأشياء التي يسمّيها النّحويّون : رافعة وناصبة ، ليس معناه أنّها كذلك لذواتها ولأعيانها ، فإنّ هذا لا يقوله عاقل ، بل المراد أنّهما معرّفان بحسب الوضع والاصطلاح لهذه الحركات ، واجتماع المعرّفات الكثيرة على الشّيء والواحد غير محال ، ألا ترى أنّ جميع أجزاء المحدثات دالّة على وجود الله تعالى؟
الثاني : أنّ هذا الجواب بناء على أنّ كلمة «إنّ» مؤثّرة في نصب الاسم ورفع الخبر ، والكوفيّون ينكرون ذلك ، ويقولون : لا تأثير لهذا الحرف في رفع الخبر ألبتّة.
الثالث : أنّ الأشياء الكثيرة إذا عطفت بعضها على بعض ، فالخبر الواحد لا يكون خبرا عنهم ؛ لأنّ الخبر عن الشّيء إخبار عن تعريف حاله وبيان صفته ، ومن المحال أن يكون حال الشّيء وصفته عين حال الآخر وعين صفته ، لامتناع قيام الصّفة الواحدة للذّوات المختلفة ، وإذا ثبت هذا ظهر أنّ الخبر ، وإن كان في اللّفظ واحدا ، لكنّه في التقدير متعدّد ، وإذا حصل التّعدّد في الحقيقة ، لم يمتنع كون البعض مرتفعا بالخبر ، وبعض بالابتداء بهذا التّقدير ، ولم يلزم اجتماع الرّافعين على مرفوع واحد.
والذي يحقّق ذلك أنّه سلّم أنّ بعد ذكر الاسم وخبره جاز الرّفع والنّصب في المعطوف عليه ، ولا شكّ أنّ هذا المعطوف إنّما جاز ذلك فيه ؛ لأنّا نضمر له خبرا ، وحكمنا بأنّ ذلك الخبر المضمر مرتفع بالابتداء.
وإذا ثبت هذا فنقول : إن قبل ذكر الخبر إذا عطفنا اسما على اسم ، حكم صريح العقل ، بأنّه لا بدّ من الحكم بتقدير الخبر ، وذلك إنّما يحصل بإضمار الأخبار الكثيرة ، وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكر من الإلزام.
الوجه الخامس : قال الواحديّ : «وفي الآية قول رابع لهشام بن معاوية : وهو أن تضمر خبر «إنّ» ، وتبتدىء «الصّابئون» ، والتقدير : «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا يرحمون» على قول من يقول : إنّهم مسلمون ، و «يعذّبون» على قول من يقول : إنهم كفّار ، فيحذف الخبر ؛ إذ عرف موضعه ؛ كما حذف من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) [فصلت : ٤١] ، أي: يعاقبون» ثم قال الواحديّ : وهذا القول قريب من قول البصريّين ، غير أنّهم
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٤٥.