كلمة «إنّ» كانت في الأصل ضعيفة العمل ، فإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضّعف ، فجاز الرّفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه ، وهو كونه مبتدأ ، فهذا تقرير قول الفرّاء ، وهو مذهب حسن ، وأولى من مذهب البصريّين ؛ لأن الّذي قالوه يقتضي أنّ كلام الله على التّرتيب الّذي ورد عليه ليس بصحيح ، وإنّما تحصل الصّحّة عند تفكيك هذا النّظم ، وعلى قول الفرّاء فلا حاجة إليه ، فكان ذلك أولى.
وقرأ أبيّ (١) بن كعب ، وعثمان بن عفان ، وعائشة ، والجحدريّ وسعيد بن جبير ، وجماعة : «والصّابئين» بالياء ، ونقلها صاحب «الكشّاف» عن ابن كثير ، وهذا غير مشهور عنه ، وهذه القراءة واضحة التخريج ؛ عطفا على لفظ اسم «إنّ» ، وإن كان فيها مخالفة لسواد المصحف ، فهي مخالفة يسيرة ، ولها نظائر كقراءة قنبل عن ابن كثير : سراط [الفاتحة : ٥] وبابه بالسين ، وكقراءة حمزة إيّاه في رواية بالزّاي ، وهو مرسوم بالصّاد في سائر المصاحف ، ونحو قراءة الجميع : (إِيلافِهِمْ) [قريش : ١] بالياء ، والرسم بدونها في الجميع ، وقرأ الحسن البصريّ والزهريّ (٢) : «والصّابيون» بكسر الباء بعدها ياء خالصة ، وهو تخفيف للهمزة ، كقراءة من قرأ : «يستهزيون» [الأنعام : ٥] بخلوص الياء ، وقد تقدّم قراءة نافع في البقرة [الآية ٦٢].
وأما «النّصارى» ، فهو منصوب عطفا على لفظ اسم «إنّ» ، ولا حاجة إلى ادّعاء كونه مرفوعا على ما رفع به «الصابئون» ؛ لكلفة ذلك.
قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ) يجوز في «من» وجهان :
أحدهما : أنها شرطية ، وقوله : (فَلا خَوْفٌ) إلى آخره جواب الشرط ، وعلى هذا ف «آمن» في محل جزم بالشرط ، و (فَلا خَوْفٌ) في محلّ جزم بكونه جوابه ، والفاء لازمة.
والثاني : أن تكون موصولة والخبر (فَلا خَوْفٌ) ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط ، ف «آمن» على هذا لا محلّ له ؛ لوقوعه صلة ، و (فَلا خَوْفٌ) محلّه الرفع لوقوعه خبرا ، والفاء جائزة الدخول ، لو كان في غير القرآن ، وعلى هذين الوجهين ، فمحلّ «من» رفع بالابتداء ، ويجوز على كونها موصولة : أن تكون في محلّ نصب بدلا من اسم «إنّ» وما عطف عليه ، أو تكون بدلا من المعطوف فقط ، وهذا على الخلاف في (الَّذِينَ آمَنُوا) : هل المراد بهم المؤمنون حقيقة ، أو المؤمنون نفاقا؟ وعلى كلّ تقدير من التقادير المتقدّمة ، فالعائد من هذه الجملة على «من» محذوف ، تقديره : «من آمن منهم» ؛ كما صرّح به في موضع آخر ، وتقدّم إعراب باقي الجملة فيما مضى.
__________________
(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٢١٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٤١ ، والدر المصون ٢ / ٥٧٦.
(٢) ينظر : السابق.