أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : لا تغلوا في دينكم غلوّا غير الحقّ ، أي : غلوّا باطلا ، ولم يذكر الزمخشريّ غيره.
الثاني : أنه منصوب على الحال من ضمير الفاعل في «تغلوا» ، أي : لا تغلوا مجاوزين الحقّ ، ذكره أبو البقاء (١).
الثالث : أنه حال من «دينكم» ، أي : لا تغلوا فيه وهو باطل ، بل اغلوا فيه وهو حقّ ؛ ويؤيّد هذا ما قاله الزمخشريّ ؛ فإنه قال : «لأنّ الغلوّ في الدين غلوّان : حقّ ؛ وهو أن يفحص عن حقائقه ، ويفتّش عن أباعد معانيه ، ويجتهد في تحصيله حججه ، وغلوّ باطل ؛ وهو أن يتجاوز الحقّ ويتخطّاه بالإعراض عن الأدلّة».
الرابع : أنه منصوب على الاستثناء المتّصل.
الخامس : على الاستثناء المنقطع ، ذكر هذين الوجهين أبو حيان (٢) عن غيره ، واستبعدهما ؛ فإنه قال : «وأبعد من ذهب إلى أنها استثناء متّصل ، ومن ذهب إلى أنها استثناء منقطع ، ويقدّره ب «لكن الحق فاتبعوه» قال شهاب الدين (٣) : والمستثنى منه يعسر تعيينه ، والذي يظهر فيه : أنه قوله تعالى : (فِي دِينِكُمْ) ؛ كأنه قيل : لا تغلوا في دينكم إلا الدّين الحقّ ، فإنه يجوز لكم الغلوّ فيه ، ومعنى الغلوّ فيه ما تقدّم من تقرير الزمخشريّ له.
وذكر الواحديّ فيه الحال والاستثناء ، فقال : وانتصاب (غَيْرَ الْحَقِّ) من وجهين :
أحدهما : الحال والقطع من الدّين ؛ كأنه قيل : لا تغلوا في دينكم مخالفين للحقّ ؛ لأنهم خالفوا الحقّ في دينهم ، ثم غلوا فيه بالإصرار عليه.
والثاني : أن يكون منصوبا على الاستثناء ، فيكون «الحقّ» مستثنى من المنهيّ عن الغلوّ فيه ؛ بأن يجوز الغلوّ فيما هو حقّ على معنى اتباعه والثبات عليه ، وهذا نصّ كما ذكرنا من أنّ المستثنى هو «دينكم».
وتقدّم معنى الغلوّ في سورة النساء [الآية ١٧١] فظاهر هذه الأعاريب المتقدّمة : أنّ «تغلوا» فعل لازم ، وكذا نصّ عليه أبو البقاء (٤) ، إلا أن أهل اللغة يفسّرونه بمعنى متعدّ ؛ فإنهم قالوا : معناه لا تتجاوزوا الحدّ ، قال الراغب (٥) : الغلوّ تجاوز الحدّ ، يقال ذلك إذا كان في السّعر «غلاء» ، وإذا كان في القدر والمنزلة «غلوّا» ، وفي السهم «غلوا» ، وأفعالها جميعا غلا يغلو ؛ فعلى هذا : يجوز أن ينتصب (غَيْرَ الْحَقِّ) مفعولا به ، أي : لا تتجاوزوا في دينكم غير الحقّ ، فإن فسّرنا «تغلوا» بمعنى تتباعدوا من قولهم : «غلا السّهم» ، أي : تباعد كان قاصرا ، فيحتمل أن يكون من قال بأنه لازم ، أخذه من هذا لا من الأوّل.
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٣.
(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤٧.
(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٨٦.
(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٣.
(٥) ينظر : المفردات ٣٧٧.