وثالثها : لا تجتنبوها اجتنابا يشبه الاجتناب عن المحرّمات ، فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل.
ورابعها : لا تحرّموا على غيركم بالفتوى.
وخامسها : لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين ، ونظيره قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١].
وسادسها : أن يخلط المغصوب بالمملوك اختلاطا لا يمكنه التّمييز ، وحينئذ يحرم الكلّ ، فذلك الخلط سبب لتحريم ما كان حلالا ، وكذلك إذا خلط النّجس بالطّاهر ، فالآية محتملة لكلّ هذه الوجوه ، ولا يبعد حملها على الكلّ.
قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) فقيل : لا تجاوزوا الحلال إلى الحرام ، وقيل : لا تسرفوا وقيل : هو جبّ المذاكير ، وجعل تحريم الطّيّبات اعتداء وتعدّ عما أحلّه الله ، فنهى عن الاعتداء ؛ ليدخل تحت النّهي عن تحريمها.
قوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً).
في نصب «حلالا» : ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مفعول به ، أي : كلوا شيئا حلالا ، [وعلى هذا الوجه ، ففي الجارّ ، وهو قوله : (مِمَّا رَزَقَكُمُ) وجهان :
أحدهما : أنه حال من «حلالا» ؛] لأنه في الأصل صفة لنكرة ، فلمّا قدّم عليها ، انتصب حالا.
والثاني : أنّ «من» لابتداء الغاية في الأكل ، أي : ابتدئوا أكلكم الحلال من الذي رزقه الله لكم.
الوجه الثاني من الأوجه المتقدّمة : أنه حال من الموصول أو من عائده المحذوف ، أي : «رزقكموه» فالعامل فيه «رزقكم».
الثالث : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : أكلا حلالا ، وفيه تجوّز.
وقال : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ولم يقل : ما رزقكم ؛ لأنّ «من» للتّبعيض ، فكأنّه قال: اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقيّة إلى الصّدقات والخيرات ، وأيضا إرشاد إلى ترك الإسراف ، كقوله : (وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١].
قال عبد الله بن المبارك (١) ـ رضي الله عنه ـ : الحلال ما أخذته من وجهه ، والطّيّب : ما غذّي وأنمي.
فأمّا الجوامد : كالطّين والتّراب وما لا يغذّي ، فمكروه إلّا على وجه التّداوي.
__________________
(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٥٩.