لذّات الدّنيا وطيّباتها ، فكلّما كان ذلك الإعراض أتمّ وأدوم ، كان ذلك الميل أضعف ، وحينئذ تتفرّغ النّفس لطلب معرفة الله تعالى ، والاستغراق في خدمته ، وإذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نهي الله تعالى عن الرّهبانيّة؟.
فالجواب من وجوه :
الأول : أنّ الرّهبانيّة المفرطة ، والاحتراز التّامّ عن الطّيّبات واللّذّات ، ممّا يوقع الضّعف في الأعضاء الرّئيسيّة ـ التي هي القلب والدّماغ ـ ، وإذا وقع الضّعف فيهما اختلت الفكرة وتشوّش العقل.
ولا شكّ أنّ أكمل السّعادات وأعظم القربات ، إنّما هو معرفة الله سبحانه وتعالى ، فإذا كانت الرّهبانيّة الشّديدة ممّا يوقع الخلل في ذلك ، لا جرم وقع النّهي عنه.
الثاني : سلّمنا أنّ اشتغال النّفس باللّذات يمنعها عن الاشتغال بالسّعادات العقليّة ، ولكن في حقّ النّفوس الضّعيفة أمّا النّفوس المستعلية الكاملة ، فإنّه لا يكون اشتغالها في اللّذات الحسّيّة مانعا من الاشتغال بالسّعادات العقليّة ، فإنّا نشاهد بعض النّفوس قد تكون ضعيفة ، بحيث متى اشتغلت بمهمّ امتنع عليها الاشتغال بمهمّ آخر ، وكلّما قويت النّفس كانت هذه الحالة أكمل ، وإذا كان كذلك ، فالمراد الكمال في الوفاء بالجهتين.
الثالث : أنّ من استوفى اللّذات الحسّيّة ، وكان غرضه بذلك الاستعانة على استيفاء اللّذّات العقليّة ، فإنّ مجاهدته أتّمّ من مجاهدة من أعرض عن اللّذات الحسّيّة.
الرابع : أنّ الرّهبانيّة التّامّة توجب خراب الدّنيا ، وانقطاع الحرث والنّسل.
وأمّا ترك الرّهبانيّة مع المواظبة على المعرفة والمحبّة والطّاعة ، فإنّه عمارة الدّنيا والآخرة ، فكانت هذه الحال أكمل القول.
الثاني في تفسير هذه الآية ذكره القفّال (١) ـ [رحمهالله] ـ وهو أنّه تعالى قال في أوّل السّورة : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] فبيّن أنّه لا يجوز استحلال المحرّم ، كذلك لا يجوز تحريم المحلّل ، وكانت العرب تحرّم من الطّيّبات ما لم يحرّمه الله تعالى ، وهو : البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام ، وكانوا يحلّلون الميتة والدّم وغيرهما ، فأمر الله تعالى أن لا يحرّموا ما أحلّه الله ، ولا يحلّلوا ما حرّمه الله ، حتى تدخلوا تحت قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١].
فقوله تعالى : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) يحتمل وجوها :
الأول : ألا تعتقدوا تحريم ما أحلّ الله لكم.
وثانيها : لا تظهروا باللّسان تحريم ما أحلّ الله لكم.
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٢ / ٦٠.